السبت، ٥ ذو الحجة ١٤٢٨ هـ

المرء لا يذبح أصدقاءه ( إهداء لخروف العيد)


أنا لا أحبذ ذبح الأصدقاء وإن كان بعضهم يستحق ذلك، ولكن أن تقول لي أني لا أستطيع ذبح خروف العيد لمجرد أنه قضى يومين أو ثلاثة في بيتي قبل يوم العيد فهذا هو العته بعينه..

ثم من قال أصلاً أن الخرفان يدخلون في قائمة من أطلق عليهم أصدقائي ؟؟

كان هذا ردي على زميلي في العمل الذي رسم على وجهه أقسى علامات الذهول والرعب عندما عرف أني كنت في بلدي أذبح خروفاً كأضحية في العيد فما كان منه إلا أن صرخ في وجهي في رعب حقيقي:

- المرء لا يذبح أصدقاءه.

ولكن والحق يقال أنه لم يرمني بتهمة الخيانة والوحشية جزافاً فقد جلس حوالي الساعة كاملة يستفسر مني عما أعنيه بذبح الأضحية ومن أين آخذ الأضحية ورمزيتها وغير ذلك ولكنه لم يحتمل عندما قلت له أننا غالباً ما نشتري الخروف قبل العيد بأيام ونعتني به حتى يوم العيد لنذبحه، ويبدو أن صديقي عندما سمع أننا نعتني بالخروف لكي نذبحه لم يتمالك أعصابه وعادت إليه عقدة الشرق الإرهابي فما كان منه إلا أن صرخ في وجهي بذلك الشكل.

وبعد أن سمع ردي الوارد أعلاه أخذته العزة بالحيوانية وبدأ يشرح لي دلالات مسألة شراء الحيوان وخلفياتها القانونية والإنسانية وأن مجرد شراء حيوان حي يعني أني وافقت على وثيقة غير مكتوبة يحصل بموجبها الخروف على حق اللجوء الحيواني وعدم تسليمه لأي جزار ليُعمل فيه سكينه، وبمجرد قبولي بأن يحيا الخروف ولو لساعة تحت سقف منزلي فذلك بحد ذاته يعتبر معاهدة صداقة وعدم اعتداء لا يجوز لأي من الطرفين خرقها وبما أن الخروف مخلوق لا حيلة له فإن الوحيد الملام في حال خرق هذه الاتفاقية إنما هو العبد الفقير إلى ربه لأنه اغتر بقوته وجبروته وعبر عن مكنونات نفسه الهمجية بذبح ذلك الخروف.
ثم انتقل بعد ذلك – صديقي وليس الخروف- إلى الجانب الإنساني من المسألة وبدأ يسألني كيف استطعت أن تسلم الخروف إلى الجزار بعد أن نظرت في عينيه ولمحت البراءة فيهما ؟؟ ألم يعذبك ضميرك وأنت تسلمه إلى الجزار ؟؟ ألم تشعر بأي شفقة عليه وأنت تراه يصارع للحصول على النفس الأخير بينما يعاجله الجزار ولا يُمَّكِنهُ حتى من ذلك.

من باب إحقاق الحق كان وقع كلماته قاسياً علي وأعادني إلى سنوات الطفولة فما كان مني إلا أن قلت بعفوية أُحسدُ عليها:

- نعم أعرف ما تعنيه ولا زلت أذكر في طفولتي عندما اشترى أبي خروف العيد وترك لي مهمة رعايته لمدة عشرة أيام تقريباً ولكن يوم العيد لم أستطع تمالك نفسي من رؤيته وهو يُذبح فبقيت أنتحب حزناً عليه حتى حان وقت الغداء لأتذوق لحمه من بين الدموع الفارة من عيني والحقيقة أنه كان من ألذ ما أكلت من لحم في حياتي لأن الخروف كان محلياً لا مستورداً.

جن جنون صديقي بعدما رويت له هذه القصة فهو لم يتوقع أن أكون بهذه الهمجية وربما توقع الأحمق أني كنت سأقول له أني امتنعت عن تناول اللحوم منذ ذلك اليوم.

ولما كانت المثابرة هي من صفات الغربي الأصيل فالرجل لم يحاول إنهاء المحادثة عند هذا الحد بل بدأ يحاول توضيح ما استصعب علي فهمه وإقناعي بوجهة نظرة فقال لي :

- أنت تعرف كلبي العزيز جاك تخيل لو أني قمت بذبحه كيف ستنظر لي؟؟

تحاملت على نفسي كي لا أتفوه بحماقة من نوع " ومن قال لك أني أهتم بك وبكلبك" فضغطت على أعصابي ورسمت على وجهي ابتسامة حاولت قدر استطاعتي أن أجعلها تبدو طبيعية وقلت له في برود:

- عزيزي عدم ذبحك للكلب لا يُعد دليلاً على تحضرك بقدر ما يشير إلى كونك لست صينياً فلو كنت صينياً لما ترددت في ذبحه بل والتمثيل به إذا ما قرصك الجوع.

على الرغم من اندهاشه لما قلته له إلا أنه ضحك وهذا شجعني بدوري كي أكمل حديثي بنفس البرود ونفس الابتسامة قائلاً له:

- ربما كنت أنا قاتلاً أو مشاركاً بالقتل وقت وقوع الجريمة بسبب مشاهدتي لعملية الذبح وعدم اعتراضي عليها ولكني كنت سأحترم وجهة نظرك لو كنت نباتياً ولكني لم أرَ مخلوقاً مفترساً ويتناول كميات هائلة من اللحوم كل ليلة مثلك ؟؟ صحيح أني كنت أقتل خروفاً واحداً في العام وربما دجاجة كل أسبوع إذا سمحت الظروف ولكن بعد أن عرفت حضارتكم ومدنيتكم بدأت أساهم في قتل المزيد كل يوم وبينما أكتفي أنا بنوعين أو ثلاثة من اللحوم كالدجاج والغنم والأبقار تطرقت أنت إلى أنواع لم أكن أحلم في يوم من الأيام أن هناك من يأكلها كالنعام والكانجاورو بل وحتى الخيول لم تسلم من جرائمك ناهيك عن الحيوان المقزز المدعو خنزير، لذلك دعنا نقولها بالصيغة التالية : أنا شهدت الجريمة ورأيتها رأي العين بينما أنت تتصرف كزعيم مافيا متحضر لا يتحمل منظر الدم ولكنه لا يتورع عن مكافأة القتلة وأكل لحم ضحاياه طالما لم يرهم وهم يُذبحون.

كان جسمه يرتج من الضحك وكأن اكتشافه بأنه متوحش يروق له ولكنه عاد يقول لي:

- ولكني لا أقتل حيواناً رأيته رأي العين وتركته يعيش تحت سقفي لبعض الوقت؟؟

" اللهم ألهمني الصبر" قلتها لنفسي ثم وجهت حديثي له قائلاً:

- وهذا جانب آخر من جوانب الشر المتمكنة منك فبينما أنا أشفق على الحيوان من أن يعيش في بيئة غير بيئته ولا أقتنيه إلا لأني سأستفيد من لحمه في أسرع وقت ، لا تتورع أنت عن اقتناء شتى أنواع الحيوانات باسم الاعتناء بها بينما في الحقيقة أنت تشتريها لتشبع فيك عقدة حب التملك من ناحية ومن ناحية أخرى تشبع ميلك الغريزي للسيطرة ولمآرب أخرى أيضاً ولأضرب لك مثلاً بكلبك المحبوب جاك ، أنت لم تقم باقتنائه لكي ترعاه ولكنك اقتنيته حتى يؤنس وحدتك عندما تكون وحيداً وأيضاً لأن اقتناء كلب في هذه البلاد غريبة الأطوار يعتبر من أقصر الطرق إلى قلوب الفتيات، وأنا لن أجحف بحقك وأقول أنك لا تعتني بكلبك جيداً فالحقيقة أنك تطعمه جيداً وتعتني به ولا تتوانى عن الذهاب به إلى الطبيب إذا ما أحس بوعكة ولكنك في المقابل سلبت منه الكثير سلبته حريته فيجب عليه أن يعيش حياته بين جدران أربعة وإذا أراد أن يقضي حاجته فعليه أن يحترم انشغالك أو عدم تواجدك ولن يقضي حاجته إلا إذا أتيت أنت وخرجت معه ليقضي حاجته بين أحضان الطبيعة، بينما أنت تستطيع دخول الحمام في أي وقت تشعر فيه بالحاجة لذلك، ولم تكتف بذلك بل أنك حتى سلبته ذكورته بأن أجريت له عملية إخصاء لأنك لست على استعداد لأن تتحمل تربية المزيد من الكلاب إذا ما قرر كلبك ذات يوم أن يقفز على كلبة الجيران لينجب منها فكان الطريق الأسهل لك هو أن تحرمه من ذكورته واستطعت على الرغم من ذلك أن تنام قرير العين فبالله عليك أينا أكثر توحشاً وسادية من الآخر.

بالطبع لم يحر صديقي جواباً بينما كانت أمارات النصر ترتسم على وجهي ولكني لم أستمتع بهذا النصر لأكثر من نصف دقيقة لأن النادل أتى وبيده فاتورة الحساب.


عبدالله الشعيبي

الأحد، ١٥ ذو القعدة ١٤٢٨ هـ

الـشــخـــير - تخاريف سهران

بسم الله الرحمن الرحيم

الشخير

سيمفونية الليل ..

إهداء

لهُ ..
لمن شنف آذاني بشخيره مؤخراً وأطار النوم من عيني وكان له الفضل في إنجاز هذه الدراسة..

مقدمة:

لما كان الشخير والمشخرون مشكلة مزمنة بالنسبة لي وكانت ترافقني أينما حللتُ ورحلتُ حتى بعد أن اعتزلت الدنيا بما فيها وارتحلتُ إلى ريف أوروبي يعتبر الأهدأ في العالم ، كان لزاماً علي أن أدرس هذه الظاهرة وأن أحاول البحث عن جذورها وأصولها التاريخية وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحالي وإليكم إنجاز ليلتين متتاليتين من البحث والتمحيص..

متن :

تشير المصادر التي اطلعتُ عليها إلى أن الشخير لم يصل إلى صيغته الحالية إلا بعد أن خضع لعمليات تطور معقدة عبر ملايين السنين ، وأن الشخير كان لدى الإنسان البدائي عبارة عن زئير أثناء النوم.
وأستطيع أن أرى بعين الخيال الإنسان البدائي وهو يزأر أثناء نومه فتنتفض الإنسانة البدائية من مرقدها مفزوعة لتدرك أن هذا الزئير كان صادراً من الشيء الراقد بجوارها " إن كانوا قد عرفوا السرير المزدوج في ذلك الوقت " فتنقض عليه وتمسك بتلابيبه وهي تصرخ :

- هونيا نانيا هوجا

الترجمة : " ما تتخمد يا منيل وتخلي ليلتك تعدي على خير "

فيستيقظ الإنسان البدائي من نومه مفزوعاً أيضاً وغير مدرك لما يجري حوله ولا لسبب الصراخ فتنشأ بسبب ذلك أول معركة في التاريخ بين الإنسان البدائي والإنسانة البدائية تنتهي بأن يأخذ الرجل جلد الدب الذي يلتحف به ، لينام على الأريكة الحجرية خارج الكهف.
ولكن الرجل البدائي لم يتحمل النوم على الأريكة لمدة طويلة فقد سببت له آلاماً في الظهر وأيضاً بسبب حاجته لإشباع بعض الضرورات البيولوجية الملحة التي لا يستطيع إشباعها من دون امرأة ، فبدأ الإنسان الأول يتعلم كيف يفكر بحلول لمشاكله.
هداه تفكيره إلى أن يبدأ التدرب على أصوات أخرى في صحوه حتى يستجلبها من اللاوعي أثناء نومه فتكون بدلاً عن الزئير وأخف وطأة منه ..

في البدء جرب العواء ولكن النتيجة أفضت به إلى النوم على الأريكة الحجرية مرة أخرى ، فجرب الصهيل وكانت نتيجته جيدة جداً أثناء ................ مع المرأة البدائية وعرف الإنسان حينها أول منشط جنسي في التاريخ ، ولكن إصدار الصهيل أثناء النوم قاده مرة أخرى إلى الأريكة الحجرية لأن المرأة الإنسانة البدائية بدأت بالشك بأنه على علاقة بامرأة أخرى وأنه يراها في منامه وبالمناسبة كانت هذه أول حالة غيرة في التاريخ.
بالطبع لم يستسلم الرجل الأول واستمر في محاولاته فجرب الخوار والثغاء و النهيق وغيرها من أصوات الحيوانات حتى عثر على الحل بالصدفة أثناء رحلة صيد للديناصورات حينما شاهد لأول مرة في حياته خنزيراً برياً وسمع صوته والذي كان عبارة عن " خنفرة " إن جاز التعبير فقرر على الفور أن يقلده وكانت المعجزة.
لم تنشب أي معركة جديدة بينه وبين الإنسانة الأولى إذ أنها استطاعت أن تتكيف مع هذا الصوت ولم يوقظها من نومها ، ولما كان الإنسان الأول سعيداً بهذا الإنجاز فقد قرر أن يحتفل فأقام أول حفلة في التاريخ و اكتشف طقوس الاحتفال وأطلق على الصوت الجديد اسم " الشخير" وتوارثته الأجيال من بعده.

وبعد مضي آلاف السنين اكتسبت المرأة هذه الصفة أيضاً وبدأت بالشخير بل وتفوقت على الرجل الذي لم يعد يتفرد بالشخير الأمر الذي أدى تململ الرجال من ذلك التفوق النسائي فبدئوا بنظم الأشعار التي يذمون فيها الشخير والمشخرات وقد نقلت لنا كتب التاريخ العديد من القصائد التي تداولها الرجال في ذلك التاريخ البعيد منها المعلقة الشهيرة للشاعر شُخير ابن أبي شُخرا والتي قال في أحد أبياتها :

وما الشخير إلا ما قد علمتم وذقتم **** وما هو عنها بالحديث المحبب.

وكذلك من الشعراء الذين أتوا بعده مثل الشاعر الشهير " المُتشخر" والذي قال يصف محبوبته وشخيرها قائلاً :

ومُشخرتي كأن بها حياء **** فليس تُشخر إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا **** فعافتها وباتت في أذاني


ولا يتسع المقام هنا لذكر المزيد من الشواهد على تلك الفترة.

ظل الوضع كما هو عليه حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ، ومع بداية القرن العشرين ظهر تيار جديد بين المشخرين من الرجال يدعو إلى ابتكار صيغٍ جديدة للشخير والتجديد في الأداء الرجولي وبالطبع فقد ووجه هذا التيار بالرفض الشديد في بادئ الأمر من قبل المجتمع الشخيري وكانت حجة الرافضين أن حنجرة الإنسان بعد كل هذه القرون أصبحت مصممة ومهيأة للإتيان بنوع واحد من الشهير لا أكثر وأن محاولة الخرج عما جُبل عليه البشر ما هو إلا خروج عن الفطرة السليمة وتدمير للسليقة التشخيرية.
ولكن التيار المجدد استطاع أن يثبت وخلال سنوات قليلة قدرة الإنسان المذهلة على التأقلم مع كل جديد وظهرت في تلك الفترة العديد من المدارس التشخيرية والتي أصبح لها أتباعها مثل :

المدرسة الكلاتشخيرية والتي لم تخرج عن أسس التشخير التي وضعها السلف.
المدرسة الروماخيرية والتي ابتكرت الشخير مع الأنين المنتظم بحيث يكون الشهيق شخيراً والزفير أنيناً وحرمت الشخير مع الزفير باعتباره عملاً متخلفاً وغير حضاري.
ثم ظهر بعد ذلك تيار يطلق عليه تيار حرية التشخير وقد وضع الهذا التيار بصمته الخاصة على الشخير الجديث وإن كان أسلوبه مقارباً لأسلوب المدرسة الرماخيرية من حيث اعتماده على الشخير والأنين معاً ولكن الفرق بينهما أن تيار حرية الشخير لم يلزم بأن يكون الشهيق شخيراً والزفير أنيناً وإنما بالإمكان استخدام أحدهما مكان الآخر بشرط الحفاظ على النغمة المنتظمة للتنفس شهيق .. زفير .. شهيق ... زفير وهكذا.
ثم ظهر تيار جديد أطلق النقاد عليه اسم مشخري الحداثة وكان أبرز ما ذهب إليه هذا التيار أن الشخير ما هو إلا عرض للتنفيس عما يعتمل داخل الإنسان أثناء النوم وأن من حق الإنسان التعبير عنه كيفما شاء حتى لو استخدم النهيق بدل الشخير وحتى لو جاء ذلك على حساب انتظام مسألة الشهيق والزفير أثناء النوم.
كانت هذه التيارات ولا زالت هي التيارات ذات الأثر الأكبر على مسيرة الشخير في العصر الحديث وقد كان لهذا الحراك وهذه التيارات أثرها الكبير على الرجال حيث أنهم استعادوا عرش الشخير من النساء على الرغم من المحاولات المستمرة من قبل النساء لمنافسة الرجال في التنويع والتجديد وظهور تيار الشخير النسائي إلا أن محاولاتهن لم تكلل بالنجاح حتى الآن وإن كانت المعركة لا تزال مستمرة..

خاتمة :

أتمنى أن أكون قد وفقت ولو بشكل بسيط في تسليط الضوء على ظاهرة الشخير وتاريخها من خلال هذه الدراسة المتواضعة وأتمنى أن تكون هذه الدراسة ذات جدوى للباحثين في شؤون الشخير ودليلاً يسترشدون به خلال بحثهم في تاريخ الشخير.

عبدالله الشعيبي

الثلاثاء، ١٠ ذو القعدة ١٤٢٨ هـ

الحفلة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحفلة

كان يبدو فاتناً بحق في تلك الليلة وكان ذلك أمراً طبيعياً مقارنة بالمجهود الذي بذله في سبيل أن يبدو بهذا الشكل ، كان يعرف أنه يبدو فاتناً فقد وقف يتأمل نفسه لأكثر من ساعة أمام المرآة قبل حضوره ، شاربه المهذب يزيد ابتسامته سحراً وتألقاً كما أن أطنان " الجل " التي دهن بها شعره قد آتت أُكُلها وجعلت شعره الأكرت يكتسب رونقاً ولمعاناً محبباً عند انعكاس الأضواء الخافتة للمكان عليه.
كانت هذه أول حفلة يحضرها منذ مجيئه إلى المهجر لذلك فقد هيأ نفسه جيداً من أجل هذه الحفلة وبدأ يستعد منذ أن تلقى الدعوة من زميلة في العمل "مارك" قبل أسبوع تقريباً ، ولأنه أراد أن يكون مبهراً تلك الليلة كونها أول مناسبة اجتماعية يحضرها في مجتمعه الجديد فقد حرص على أن لا تفارق الابتسامة مُحياه منذ أن دلف إلى المكان وكان "مارك " لطيفاً عندما استقبله بوجه بشوش وبدأ يعرفه على بعض الحضور فأخذ يمازح هذا ويجامل تلك ويتقبل مجاملاتهم ومزاحهم الخفيفة بابتسامة جذابة وخلال هذا الوقت اضطر " مارك " لاستئذانه لأن هناك ضيوفاً حضروا للتو وعليه أن يكون في استقبالهم ولكنه لم ينس أن يرشده إلى مكان البار وأن يخبره بأن لا يشعر بالحرج وأن يعتبر البيت بيته ، شكر " مارك "على لطفه وكرمه ثم استأذن من محدثيه واتجه إلى البار ليطلب بعض الشراب.
أثناء جلوسه على أحد الكراسي العالية أمام البار بانتظار تحضير طلبه حانت منه التفاته إلى الزاوية اليمنى من طاولة البار ليراها هناك ، بهية متألقة بشعرها الأسود البهيم المنسدل على كتفيها والذي جعلها تبدو كشيء خارق للمألوف في ذلك المكان المزدحم بالشقراوات ، بشرتها المائلة للسمرة وعيناها السوداوان المشاغبتان جعلت قلبه يرقص بين ضلوعه وشعر به كأنه يريد القفز من مكانه ليستقر بين يديها ، كان شعوراً غريباً وطاغياً لم يألفه قبلاً .
" عربية هي قطعاً " قالها محدثاً نفسه.

لم يكن يفصله عنها سوى بضعة مقاعد خالية وكانت تتهامس مع صديقة لها وكلاهما تنظران إليه وتضحكان بصوت خافت..

" هي معجبة إذاً " رددها في سره وابتسم.

في هذه اللحظة وضع النادل الكأس أمامه على الطاولة فتناول الكأس ورفعها في الهواء وهو يبتسم لهما في إشارة إلى أنه يشرب نخبهما فما كان منهما إلا أن انفجرتا ضاحكتين وبادلاه الأنخاب فحدث نفسه قائلاً :

" يبدو أنها سهلة المنال "

وهنا فكر بأن يقوم بخطوة أكثر جرأة وقرر أن يذهب إليهما ويتحدث معهما ولكن وقبل أن ينهض من مقعده كانت السمراء قد نهضت من مقعدها وأقبلت نحوه فأخذ قلبه يخفق بشدة فهو لم يتوقع أن تتسارع الأمور بهذا الشكل وأن تكون الفتاة بهذه الجرأة ، عند اقترابها منه كانت رائحة عطرها الباريسي تسبقها متسللة عبر أنفه لتتوغل في عقله وتخدر كل أحاسيسه وتلجمه عن الكلام.
أخذ ينظر إليها مذهولاً عندما انحنت لتهمس في أذنه بالعربية قائلة :

- إنها المرة الأولى التي أعرف فيها أن الرجال يرتدون ملابس داخلية حمراء.

حدق فيها ببلاهة قائلاً :

- ماذا ؟؟

فابتسمت هي وهمست في أذنه مرة أخرى وهي تشير بيدها إشارة خاصة قائلة :

- أغلق زمام البنطلون.
عبدالله أحمد الشعيبي

الاثنين، ٩ ذو القعدة ١٤٢٨ هـ

كلام حكومات

" على كل مواطن يقيم خارج الوطن لمدة تزيد عن الستة أشهر تقييد اسمه في سجل قيد المواطنين في السفارة أو القنصلية التي يقطن في مجال اختصاصها "
هذه العبارة تقع بالتحديد في الصفحة السادسة من جواز السفر في الجهة اليسرى لو أردنا مزيداً من الدقة ، ذلك الجواز الذي ما إن استخرجته حتى جلست أتأمله ليومين كاملين مبهوراً بأناقة التصميم ومأخوذاً بالعبارات الرنانة التي احتواها بين دفتيه مثل تلك الديباجة التي يرجو فيها وزير خارجية الحكومة الموقرة من جميع الجهات في جميع البلدان تذليل كل العقبات لحامل الجواز وإحاطته بكامل الرعاية عند الاقتضاء بالإضافة إلى العبارة المتعلقة بقيد الأسماء والمذكورة أعلاه ، الأمر الذي أوحى لي بما لا يدع مجالاً للشك بأن الحكومة الموقرة وعلى رأسها فخامة الرقيع يهتمون بأمر المواطنين خارج الوطن بغض النظر عن إذاقتهم للمقيمين داخل الوطن صنوف الذل والهوان ( وظننت وبعض الظن إثم أن ذلك ربما يكون تطبيقاً لمبدأ عدم نشر الغسيل القذر خارج حدود الوطن).
كانت هذه الحقيقة التي توصلت إليها مبعث فخر لي وشعرت بالتميز عن أقراني لأني كنت على مسافة قاب قوسين أو أدنى من السفر وبدأت أحلم ليل نهار بالدلال والنعيم المقيم والحفاوة التي سألقاها من سفارتنا في البلد الذي كنت على وشك السفر إليه ، بل وصلت في الصفاقة أني رأيت بعين الخيال سفيرنا الموقر ينتظرني أسفل الطائرة بسيارته الكاديلاك السوداء ( سمعت فيما بعد أنها مرسيدس ) وما إن رآني حتى تهللت أساريره وأخذني بالأحضان و........... "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " قلتها لنفسي ونفثت على يساري ثلاث مرات لأفيق من هذا الحلم الغير لائق بسعادة السفير .
المهم وحتى لا أتشعب في الحديث سارت إجراءات سفري على خير ما يرام واستطعت الهجرة أخيراً وبعون الله إلى بلد من بلدان بني الأشقر وهو الحلم الذي راودني منذ الطفولة على الرغم من تغير الدوافع " ففي طفولتي أردت السفر حتى أتعلم الأكل بالشوكة والسكين بينما كان سفري مؤخراً بسبب دوافع إنسانية بحتة " ، ومنذ أن وطئت قدمي أرض تلك البلاد حتى انشغلت بأمور كثيرة جدا ولم أجد متسعاً من الوقت لالتقاط أنفاسي وعليه نسيت كل ما يتعلق بالجواز والسفارة والمعاملة الخاصة حتى حصلت أخيراً على الإقامة بشكل رسمي في البلد الذي هاجرت إليه ، ولأني كنت سعيداً جداً بحصولي على الإقامة أخذت أقلب الجواز بين يدي متأملاً الإقامة لأشعر بالمزيد من النشوة وأثناء تأملي في الجواز وقعت عيني مرة مجدداً على العبارة القائلة :

" على كل مواطن يقيم خارج الوطن لمدة تزيد عن الستة أشهر تقييد اسمه في سجل قيد المواطنين في السفارة أو القنصلية التي يقطن في مجال اختصاصها "
ودون تردد ولأول مرة في حياتي قررت أن أتبع النظام و " أسمع كلام الحكومة " على الرغم من أني كنت عضواً فاعلاً في عجلة الفساد والفوضى في وطني ق . هـ ( قبل الهجرة) ،فبحثت عن رقم الهاتف التابع للسفارة عن طريق الانترنت وبعد عناء عثرت على الرقم فرفعت سماعة الهاتف في تلك اللحظة وطلبت الرقم وبعد أن رن الهاتف مرتين " فقط " تسلل إلى أذني عبر سماعة الهاتف صوت كأجمل ما خلق الله من أصوات على ظهر البسيطة قائلاً :
- أهلا وسهلا هنا سفارة .............
ابتلعت لعابي محاولاً التغلب على التلعثم المفاجئ الذي أصابني بسبب سماع ذلك الصوت العذب فقلت بصوت مهزوز :

- أنا المواطن ........ وأريد قيد اسمي في سجل المواطنين المقيمين في نطاق اختصاصكم.
ولأنكم تعرفون أن الأجهزة الإلكترونية خادعة أحيانا وهذا ما ظننته عندما سمعت الرد هذه المرة بصوت مغاير تماما وكأنما أصابت صاحبة الصوت التهابات مفاجئة في الحنجرة جعلت صوتها أجشاً كأقبح ما خلق الله من أصوات على ظهر البسيطة قائلة :

- عفوا لا يوجد لدينا شيء من هذا القبيل.

أنا مستغرباً :

- ولكن هذا مذكور في جواز السفر؟!!

شهقة غريبة ثم :

- اسمع يا أخي الـ ...... محترم نحن لدينا مسئوليات جسيمة هنا ولا وقت لدينا لمثل هذه التفاهات .

أنا مصعوقاً :

- تفاهات ؟! لكن أليس من مهام السفارة رعاية المواطنين المقيمين في دائرة اختصاصها ولكي يتسنى لها ذلك يجب أن يكون هناك سجل بأسماء المواطنين المقيمين في دائرة الاختصاص ؟!!

وما ان أنهيت كلامي حتى اخترقت أذني عبر سماعة الهاتف ضحكة كأرقع وأميع ما خلق الله من ضحكات على وجه البسيطة ثم ...تك ، انتهت المكالمة.

ما يثير حنقي حتى اللحظة هو أني لا أعرف كيف انتشر خبر هذه المكالمة في أوساط الجالية العربية وبسبب تلك المكالمة أصبحت مشهوراً في أوساط الجالية باسم الأحمق الذي " سمع كلام الحكومة "
عبدالله الشعيبي

الجمعة، ٢١ شوال ١٤٢٨ هـ

قــصـــــاصــــــــات

* مواظب على صلاة الجماعة في المسجد، رفاقه كلهم من أصحاب اللحى والثياب القصيرة إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يكون زير نساء ، ذات مرة وبينما كان مع إحداهن في شقته أذن المؤذن لصلاة المغرب قبل أن ينقض صاحبي على فريسته ولأنه ورع فقد تركها في الشقة واقفل عليها الباب وذهب للصلاة في المسجد ولأنه يجوز تأخير صلاة العشاء فقد عاد إلى شقته لُيكمل ما بدأه !!

*كان ماركسياً ملحداً وبعد أن انهارت المنظومة الشيوعية وانفض الرفاق من حوله عرف الطريق إلى الله ، ولما كان في سابق عهده متطرفاً في أقصى اليسار فكان طبيعياً أن يكون في عهده الجديد متطرفاً في أقصى اليمين .. النتيجة ولداً ملحداً!!

* أحد القادة الكبار لإحدى الجماعات الإسلامية في إحدى الدول العربية ، كان عندما يُلقي محاضرة أو يخطب في المسجد يُبكي كل من سمعة خشوعاً وتأثراً ، ذات يوم عرض عليه رئيس الدولة منصباً رفيعاً في الحزب الحاكم وامتيازات لا حصر لها مقابل تركه لتلك الجماعة فوافق على الفور ، ولكي يثبت أنه تخلى عن ماضيه تماماً انغمس في شهواته حتى النخاع الأمر الذي حدا برئيسه أن يقول له : " عزيزي كل ما طلبته منك هو أن تترك الجماعة لا أن تترك الإسلام " !!

* لم يعرف من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم سوى " تكاثروا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة" ولأنه فسر الحديث بالكم لا بالكيف فقد أنجب من الأبناء تسعة ، أربع فتيات وخمسة أولاد أربعة منهم ما بين سكير وزير نساء ولصٍ ومدمن مخدرات!!

* ظهرت عليه علامات الثراء فجأة وأصدر صحيفة تُباع بنصف التكلفة ولا تحوي صفحاتها إعلاناً واحداً ، وفتحت تلك الصحيفة أبوابها للمهمشين من أنصاف المثقفين الذين خصصوا كل كتاباتهم للنيل من الدين والثورة على الأخلاق ، جاءني يوماً وعلى وجهه علامات الحزن ليشكي لي عدم فهمه لاتهام المجتمع له بأنه يتلقى دعماً من منظمات مشبوهة!!

* مجاهد لا يشق له غبار متخصص في الرد على بني علمان وكل من ينتقص من الجهاديين ولم يترك موقعاً جهادياً على الانترنت إلا وله فيه صولات وجولات ومقالاته التي يعلن فيها كراهيته للغرب الكافر وثقافته المنحلة والساقطات الكاسيات العاريات لو جُمعت في مجلدات لفاقت في حجمها " فتح الباري" ، وبعد أن ينهي جهاده اليومي على الانترنت يتجه للمقهى القريب من سكنه علَّهُ يحظى بإحدى أولئك الساقطات ترضى به زوجاً حتى يستطيع الحصول على إقامة دائمة في الدولة الكافرة التي يعيش فيها كلاجئ!!

الأحد، ٤ رمضان ١٤٢٨ هـ

رمضان وأيام الطفولة

في أيام الطفولة الأولى كان رمضان في مدينة إب يعني لي شعر البنات ( أحد أنواع الحلوى الرمضانية المشهورة في إب )، الملبس ، الملوز ، الرواني ، المحلبية ، البقلاوة ، الكنافة ( مع أني لا أحبها ) ، الشفوت .. وأيضاً الشوارع الخالية من البشر صباحاً والمزدحمة مساءً ..ثم بعد ذلك وفي سن السابعة أو الثامنة تقريباً عندما بدأت أصوم تغيرت نظرتي لرمضان ( قليلاً ) فبالإضافة إلى ما ذكرته سابقاً كان رمضان يعني لي المعارك اليومية حول الصيام ( حيث لم يكن الأهل يسمحون لنا سوى أن نصوم يوماً ونفطر يوماً وكنا نفطر إجبارياً وأحياناً باستخدام العصى ) وأيضاُ كان رمضان يعني محاولة السهر على قدر الاستطاعة والنوم قبالة التلفاز حتى وقت السحور لنستيقظ عندها ونتناول السحور و نحن أنصاف نيام ثم صلاة الفجر في المسجد والنوم مرة أخرى حتى العاشرة صباحاً ( إجبارياً أيضاً حتى لا نوقظ الحي بصراخنا في الشارع إن استيقظنا مبكرين ) ، والأهم من ذلك كله كان رمضان يعني اللعب في الشارع حتى الساعة العاشرة مساءً وهذا هو محور حديثنا هنا ..كانت لدينا العديد من الألعاب و في كل سنة نخترع لعبة جديدة بعد أن تنتهي اللعبة اللي لعبناها في العام الماضي بكارثة نبدأ في التفكير والابتكار ومن الألعاب التي لا زالت عالقة في ذهني ( علي بابا والأربعين حرامي ، حرب العصابات ، الكاميرا الخفية ) .علي بابا والأربعين حرامي :اللعبة ببساطة عبارة عن زعيم ( والذي كان أكبرنا سناً وأكثرنا شراسة ) ونسميه علي بابا ثم الأربعين حرامي وهم بقية الأطفال ( كنا في حدود الخمسة أو الستة أطفال تقريباً) وعلينا أن ننفذ طلبات الزعيم والتي هي عبارة عن أوامره بسرقة شيء ما مثل الفاكهة الفلانية من السوق المركزي للمدينة والذي يقع في حارتنا والخطة كانت تتلخص في أن يذهب أحد الأطفال ويسأل عن سعر الفاكهة ليشغل البائع بينما يأتي طفل آخر من الجهة الأخرى ويأخذ تفاحة مثلاً وكانت غالباً ما تنجح تلك الحيلة وفي حال لم تنجح واكتشف البائع الأمر كان الطفلان يطلقان ساقيهما للريح ومن الصعب الإمساك بهما .من أطرف المواقف التي حصلت أنه في أحد الأيام بينما كان دور ابن عمي في سرقة الفاكهة وبعد أن نجح في ذلك وكان في طريقه إلينا هرب ديك من أحد الأقفاص في السوق وكان البائع يطارده ويصرخ امسكوووووووه امسكوووووووووووه وكان يعدو باتجاه ابن عمي ففزع ابن عمي وظن أن الرجل كان يقصده هو فرمى الفاكهة من يده وأخذ يجري وهو يصيح ( والله ما هو أنا والله ما هو أنا ) .انتهت هذه اللعبة بعد أن اشتكي أحد الباعة في السوق إلى جارنا وأخبره أنه رأى ابنه يسرق من إحدى ( البسطات ) في السوق وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم بين الآباء وبعد أن طبق علينا الكبار أساليبهم التربوية التي لم تخرج عن شد الآذان وركل المؤخرات عرفنا حينها أن السرقة إن لم تكن محرمة فإن عواقبها وخيمة..حرب العصابات:أعتقد أن كثيراً من الأعضاء قد مارسوها بشكل أو بآخر وكانت اللعبة ( أو بالأصح الكارثة) تتلخص في أن يجتمع أطفال الحي الذي نقطن فيه لنشكل عصابة واحدة ثم نبعث مبعوثاً للحي المجاور ليخبر من يعرف من أطفال ذلك الحي بأننا قد أعلنا الحرب عليهم وأن عليهم أن يستعدوا أو العكس بمعنى أن يأتي مبعوث من الحي الآخر ليخبرنا بأنهم أعلنوا الحرب علينا وأن علينا أن نستعد ويتم تحديد موعد المعركة في يوم محدد ويمضي الطرفان الأيام السابقة للمعركة في تجهيز الأسلحة والتي تكون عبارة عن سيوف معدنية مصنوعة يدوياً من بقايا الأحزمة المعدنية التي تلف صناديق البضائع وأيضاً بعض العصي والمقلاع ( المنفط باللهجة الدارجة في إب، القوس باللهجة الدارجة في صنعاء) ثم يأتي وقت المعركة ويحدث الالتحام والمطاردات في الشوارع والأزقة وبين السيارات و تحدث عمليات أسر وتعذيب للأسرى ( يتم تقييد الأسير ثم جلده في تقليد للمسلسلات التاريخية التي كنا نشاهدها في رمضان) وبعد ذلك يأتي تبادل الأسرى ( انتو فلتوا لأسيرنا واحنا نفلت أسيركم ) والحقيقة أننا كنا نتمتع بأخلاق الفرسان فبعد أن نبرم الاتفاق يلتزم كل طرف بتسليم الأسرى للطرف الآخر وكانت المعركة تنتهي فقط إن تم أسر زعيم العصابة وتعتبر العصابة مهزومة.تم تحريم هذه اللعبة دولياً بعد أن تسببت إحدى المعارك الشرسة في تحطيم زجاج إحدى السيارات وشكوى أصحاب المحلات التجارية من أننا نثير الفوضى في الشارع ( كما أسلفت لكم كنا نعيش في منطقة تجارية ) وتدخل بعض العساكر من القسم المجاور لفض أحد الاشتباكات وأخذوا تعهداً من أولياء الأمور (بضبط ) أبنائهم وبالفعل تم ( ضبطنا ) بالأساليب التربوية السابقة ( ويبدو أنها كانت الحل الوحيد الناجع).الكاميرا الخفية : مع بداية ظهور برنامج الكاميرا الخفية في التلفزيون تفتقت أذهاننا على لعبة رمضانية جديدة وهي تطبيق مقالب الكاميرا الخفية على البسطاء من الناس وهكذا كما ترون لم نكن أشراراً فقط وإنما عنصريون أيضاً .كانت المقالب متنوعة ومتعددة ومما أذكر منها ربط خمسة ريالات بخيط رفيع لا يرى ورميها وسط الشارع بينما نختبئ نحن في ركن خفي ونسحب الخيط كلما حاول شخص التقاط النقود من الأرض وننفجر ضاحكين ونحن نرى ملاحقته للخمسة الريالات المسكونة بالجن ولكن هذا المقلب لم يستمر كثيراً لأنه كان مملاً.مقلب آخر ولكن لم نكن نطبقه في حيينا وإنما بالاشتراك مع بعض المخضرمين من أصدقائنا في المدينة القديمة وكنا ننفذ هذا المقلب في منطقتهم لأن الأجواء مناسبة وكان هذا المقلب يتلخص في وضع صندوق كرتوني كبير في أحد الأزقة المظلمة في المدينة القديمة ثم نضع داخل ذلك الكرتون أصغرنا سناً وحجماً ونختفي نحن بين البيوت لنراقب الطريق وما إن يأتي يمشي شخص في الزقاق حتى نطلق صافرة خفيفة للتنبيه فينتظر الشخص القابع في الصندوق قليلاً ثم يقفز فجأة من داخل الصندوق وهو يصرخ بصوت مرتفع ليتفض الشخص المستهدف مفزوعاً ثم يبتسم لنا ويتظاهر بالمرح عندما يرانا نضحك ويغادر المكان بساقين لا تكادان تحملانه ولكن وبما أن طبائع الناس مختلفة فقد ساقنا القدر لنفزع عجوزاً في آخر عمره حتى كدنا نتسبب له بنوبة قلبية فما كان منه إلا أن أشهر عصاه ونزل بها ضرباً على الشخص الذي قفز من داخل الصندوق والذي لم يسعفه الوقت للهرب بينما نحن لذنا بالفرار وتركناه يواجه مصيره.المقلب الثالث والذي أدى إلى تحريم اللعبة دولياً يتلخص في الآتي كنا نحضر كرة مفرغة من الهواء ونملأها بالتراب ونضعها في الطريق ونضع على بعد أمتار منها حجرين متباعدين يمثلان المرمى ويقف أحدنا في المرمى ثم ننتظر حتى يمر أحد الأشخاص ( وكنا نركز على أبناء الريف القادمين للتسوق من المدينة ) ونتحداه بأن يسجل هدفاً في المرمى و طبعاً المسكين لا ينال إلا الألم بينما الكرة لا تتحرك سوى سنتيمترات معدودة ، مرت اللعبة على خير وضحكنا كثيراً حتى أتى لنا أحدهم بفكرة جهنمية وهي أن نملاً الكرة بالحجارة بدلاً التراب بغرض إضفاء المزيد من المتعة على اللعبة وكان له ما كان وكان ضيفنا الأول بعد التعديل شاب في سن المراهقة قادماً من إحدى القرى القريبة من المدينة والذي ما إن تحديناه حتى قبل التحدي وخلع نعليه ثم وأخذ مسافة استعداد مناسبة ثم ##########تحركت الكرة لمسافة متر أو أكثر بقليل بينما ملأ الفتى الحي بصراخه ثم ارتمى على الأرض وهو يحضن ساقه ويصرخ بصوت مرتفع جعل الناس يتجمعون بلمح البصر حولنا وتم إسعاف الفتى إلى المستشفى لنعرف فيما بعد بأنه أصيب بكسر في مشط القدم وانخلع ظفر إصبع قدمه الأكبر بأكمله فعدنا نحن لمواجهة الأساليب التربوية (إياها) مرة أخرى.كانت تلك آخر الألعاب الصبيانية الرمضانية التي مارستها في مدينة إب لأني انتقلت في العام التالي مع أسرتي للسكن في العاصمة صنعاء وهناك تعرفت على أساليب جديدة للشر في رمضان تبدأ مع شروق الشمس وتهدأ مع غروبها لنتحول إلى ملائكة ولكن هذه قصة أخرى ..

الجمعة، ١٨ شعبان ١٤٢٨ هـ

حوار

شعر بالحرج عندما بدأ الشخص الجالس إلى جواره بالتحدث إليه، أراد أن يعلمه بالحقيقة، ولكنه أحجم عن ذلك عندما لاحظ أن محدثه مستمر في حديثه وكأنه يتحدث إلى فراغ، فأدرك أن محدثه ثرثار من ذلك النوع الذي لا يصغي للآخرين، ولا يترك لأحد فرصة للحديث؛ لذلك ركز نظره على وجه محدثه، مظهرا اهتمامه بما يقول، أخذ يتأمل شفاه محدثه وهي تتحرك انفراجا وانقباضا، بروزا وانبساطا، صانعة لكلمات لا يدري ما هي، أخذ يهز رأسه بين الفينة والأخرى حتى يظهر لمحدثه أنه مهتم لحديثه. بدأ يستمتع بالدور الذي يقوم به، وبرؤية وجه محدثه وهو يحتقن من فرط انفعاله في الحديث؛ حتى بدا كأنه لا يجد فرصة لاستنشاق بعض الهواء، كان يشعر باللذة لرؤية تلك الشفاه وهي تتحرك بسرعة كأنها في سباق، كان يشعر بالسعادة كطفل حصل على لعبة جديدة، ما كان يضايقه فعلا هو ذلك الرذاذ المتطاير من فم محدثه، ولكنه تجاهل ذلك حتى لا يفوت المتعة التي يشعر بها.
مر الوقت سريعا بشكل لم يكن يتوقعه ولم يشعر به إلا عندما أحس بيد تربت على كتفه، فالتفت ليجد أخاه يشير بأنه قد حان وقت الذهاب، ثم توجه أخوه بالحديث إلى الشخص الذي كان يتحدث إليه قائلا: - أشكرك يا سيدي على جلوسك مع أخي، يبدو أنه قد استمتع بجلوسك معه، إنها المرة الأولى التي أجده فيها سعيدا بجلوسه مع شخص ما، إنه يجد صعوبة في التأقلم مع الآخرين لأنه يخجل من إعاقته.
رد عليه الرجل متسائلا: -إعاقة؟!!
لم يسمع الأخ تساؤل الرجل، ولكنه أردف قائلا:
- ولكني أعجب كيف استطعت التفاهم معه؟ هل لديك قريب مصاب بالصمم؟ - فغر الرجل فاه مدهوشا والتفت إلى جليسه ليرى ابتسامة ساخرة تتراقص على شفتيه.
عبدالله الشعيبي
2002

ثورة

- دعاني أحد اصدقائي الى بيته كي نتناول القات معا فلبيت دعوته وذهبت الى بيته المتواضع جدا والذي يعتلي سطحه صحن لاقط في تناقض واضح بين شكل البيت وحداثة الصحن ثم أدخلني صديقي الى المنزل وجلسنا في احدى الغرف والتي كان اثاثها عتيقاً ورثا عدا جهاز التلفاز وجهاز استقبال القنوات الفضائية واللذين كانا حديثين بشكل لا يتناسب بتاتا مع بقية الأثاث فتجاهلت الأمر وجلست أتناول القات مع صديقي , ومن سوء حظنا أن جهاز استقبال القنوات الفضائية كان معطلا فأخذنا نشاهد القناة المحلية اضطرارا وإذ نحن جالسان دخل علينا طفل عمره لا يتجاوز السنوات السبع ولكن هيئته كانت تحمل تناقضات غريبة فجسده الهزيل والنحيل وقامته القصيره تجعلك تظن أن عمره لا يتجاوز السنوات الثلاث أما وجهه الشاحب ونظراته الزائغه توحي اليك بأنك تنظر الى كهل حتى أنك تصاب بنوع من الخداع البصري الذي يجعلك تظن أنك ترى بعض التجاعيد محفورة على ذلك الطفل فالتفت الى صديقي أسأله عن الطفل فأخبرني مزهواً أنه ابنه ثم طلب من الطفل أن يصافحني فجاء الولد الي ومد يده ببلاهة وهو لا ينظر الي فمددت يدي اليه وصافحته ثم انصرف من أمامي وذهب للجلوس قبالة التلفاز يشاهد ما يعرض على شاشته بينما كنت أحاول أن أصرف نظري عن ذلك الطفل الكهل وبدأت أشغل نفسي بالحديث مع صديقي حول مواضيع عده حتى تناسيت أمر الطفل تماما وتشعب الحديث بيننا مع مرور الوقت ثم بدأ الحديث يفتر تدريجيا بيننا كلما ازداد تأثير القات حتى صمتنا عن الحديث تماما عندما وصل تأثير القات ذروته وبدأت أشعر بالملل فأخذت أتابع التلفاز صرفا للملل .
كان التلفاز يعرض برنامجا عن منجزات الثوره وتأثيرها على نواحي الحياة المختلفة والتطور الذي شهدته البلاد منذ قيام الثورة في كافة المجالات وكنت أتابع الصور التي تعرض على الشاشة بغير اهتمام حقيقي فقد صرت أحفظ تلك الصور والمشاهد عن ظهر قلب لكثرة ما تم تعذيبنا بعرضها ليلا ونهارا بمناسبة وبغير مناسبة , بدأت أشعر بالضيق كأني سجين يتم تعذيبه في احد المعسكرات النازية ذات السمعة السيئة وأخذت الثواني تمر علي كأنها دهور حتى وصل البرنامج الى الحديث عن النهضة التعليمية التي أحدثتها الثورة وأخذ التلفاز يعرض صوراً لأطفال يدرسون في احدى المدارس االخاصة ويلعبون في أفنيتها فتذكرت ابن صديقي الذي كنت قد نسيته والتفت اليه فوجدته يتابع مايعرض على التلفاز في بلاهة فأخذت أنقل بصري بين الأطفال الذين يظهرون على شاشة التلفاز وبين ذلك الطفل الجالس أمامي فكنت أنظر الى التلفاز فأرى أطفالا ينعمون بصحة وافرة تبدوا واضحة في بريق عيونهم ونضارة وجوههم ثم أنظر الى ابن صديقي فأرى النقيض من ذلك تماما , كنت أرى الأطفال في التلفاز يمرحون ويتقافزون هنا وهناك في نشاط واضح وأنظر الى ابن صديقي فأرى وجها كئيباً يتثاءب كسلحفاة بلغت من العمر عتيا , كنت أرى في التلفاز أطفالا بملابس نظيفة وأنيقة وأنظر الى ابن صديقي فأرى طفلا بملابس رثه ومتسخة قد أكل الدهرعليها وشرب وتكاد تتمزق من فرط ضيقها وكأن ذلك الطفل لم يغير ملابسه منذ أن كان رضيعاً ,كانت تلك المقارنه تثير سخرية مريره وكأننا نشاهد بشراً من عالم أخر , ويبدوا أن صديقي قد أدرك ذلك وبدأ يشعر بالضيق عندما لا حظ تنقل نظراتي بين طفله وبين التلفاز فما كان منه الا أن قام باطفاء التلفاز وهو يسب ويلعن التلفاز لعرضه مثل هذه البرامج المملة والمكررة فشعرت بالحرج الشديد وأخذت أتظاهر بعدم الاهتمام بينما أخذ ذلك الطفل يلعب بأصابعه لعبة غريبه ثم التفت فجأة الى والده وهو يسأله :
أبي ما هي الثورة ؟ هل هي زوجة الثور ؟
عبدالله الشعيبي
2002

على الواقف

على الواقف
إحساس غير مريح البتة عندما تشعر بأنك بحاجة لأن تحك ساقيك ولكنك لا تجرؤ على ذلك، تتقلص أصابع قدميك في حركة عصبية في محاولة من الدماغ لتشتيت انتباهك عن الشعور الذي ينتابك الآن لكن الغريب في الأمر أن هذه ليست المرة الأولى التي ينتابك فيها هذا الشعور فمنذ طفولتك وأنت معتاد على الوقوف لساعات على قدميك وأحياناً على قدمٍ واحدة عندما كان الأستاذ "عفيف" يعاقبك على كسلك في عمل الواجبات وعلى غبائك في الصف. لكن الوقوف حتى على قدمٍ واحدة في تلك الفترة لم يكن مؤلماً ومزعجاً مثل ما هو عليه الآن ، كنت لا تزال يافعاً وكانت وضعية الوقوف تلك نوعاً من الرياضة والتسلية في آنٍ معاً خصوصاً عندما يدير الأستاذ " عفيف" ظهره ناحية التلاميذ فتقوم بإنزال قدمك وصانعاً بوجهك أشكالاً مضحكة تجعل كل من الصف ينفجر ضاحكاً بينما يحمر وجه الأستاذ "عفيف" غضباً ويتجه إليك ليصفعك ويدير وجهك نحو الحائط مرة أخرى.
- أين أيام الأستاذ " عفيف "؟
تقولها لنفسك متنهداً ومتحسراً على تلك الأيام ، فلم ترَ بعد الأستاذ "عفيف" سوى البؤس والشقاء وقد بدأت رحلة شقائك عندما غادرت المدرسة بسبب ضيق ذات يد الأسرة الكريمة واضطررت للعمل في السوق واقفاً أمام "بسطة " للخضروات في تلك السن المبكرة من عمرك لكي تساعد والدك الذي يكد ويتعب لإطعام الأفواه الخمسة عشر التي تنتظره في بيت الصفيح الواقع في الضاحية الجنوبية للمدينة ومرت سنين الطفولة ثم المراهقة وأنت واقف على قدميك كل يوم في السوق لتحصل في نهاية اليوم على دراهم بالكاد تسد الرمق.لا زلت تتذكر ذلك اليوم الذي رأيت فيه صاحب البسطة المجاورة "محمود الصايع" (المختفي منذ أشهر) حليق الرأس نافخاً صدره مزهواَ باللباس العسكري الذي يرتديه وماشياً في خيلاء من أمام بائعات الخبز ثم يتجه نحوك ليجدد العهد القديم ويمازحك وتعرف منه أنه التحق بالجيش عن طريق أحد أقاربه الذي ترقى منذ فترة بسيطة إلى صف ضابط ولكنه صاحب علاقات واسعة في وحدته العسكرية.عرض عليك محمود مشروع العمر وبأنه بإمكانه أن يسهل لك طريقة للالتحاق بالجيش ولن يكلفك ذلك سوى مبلغ بسيط تدفعه لابن عمه وترتاح بعدها من عناء الوقوف اليومي في السوق والصراع على دراهم قليلة لا تكاد تسد رمقك ، لم يدم تفكيرك في الأمر طويلاً إذ أنك سرعان ما بعت البسطة التي كنت تعمل عليها واستدنت مبلغاً صغيراً من جارك "أبو سعيد" ولم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً حتى صرت مجنداً.
في المعسكر قالوا لك أن الفترة التدريبية هي الأشق وعليك احتمالها لتنعم بالراحة فيما بعد ، ولكنك كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار إذ أنه سرعان ما تبينت لك حسنات الوقوف في السوق مقارنة بالوقوف في طابور المعسكر ففي السوق كنت تنشغل بحركة البيع وإرضاء الزبائن والتحدث مع جيرانك في السوق عن وضعية الوقوف التي صارت ملازمة لك أما في المعسكر فيجب عليك أن تقف لساعات كالصنم دون حركة أو كلمة أو همسة ولو كان بيدهم أن يمنعوا رئتيك من التنفس وقلبك من الخفقان لفعلوها ، كانت تلك الفترة هي العذاب بعينه وكان شعورك بالحاجة إلى أن تحك ساقيك يثير جنونك حتى أنك تمنيت في يوم من الأيام أن تكون بلا ساقين.
مرت الفترة التدريبية بسلام (نوعاً ما) وكنت تتمنى في قرارة نفسك أن يعينوك في إحدى كتائب السلاح وحبذا لو كان سلاحاً له مقعد كالدبابات أو مضاد الطيران ليتاح لك الجلوس طوال اليوم ولكن المشكلة أنك كنت جيداً جداً في فترة التدريب الأمر الذي أثار إعجاب قائد الوحدة والذي أصر على تكريمك بتعيينك حاجبا لباب مكتبة وهو عمل مريح (من وجهة نظره ) وسيكفيك عناء الطوابير اليومية في الوحدة.
كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً وها أنت اليوم لا تزال واقفاً أمام مكتب القائد وتتمنى لو أنك ولدت بلا ساقين أقله لن تشعر بالحاجة لأن تحك ساقين لا تمتلكهما ، قد يكون الموت هو خلاصك الوحيد من هذا العذاب ولكنك رجل مؤمن ولن ترتكب عملاً أحمقاً يكبك على وجهك في جهنم، كما أنك لا تعلم أنك ستموت بعد عامين بسكتة قلبية سببها الإجهاد وكذلك لا تعلم أنه في نفس اليوم سيصدر قرارٌ حكومي بجعل القبور طولية بسبب ازدحام المقابر.
عبدالله أحمد الشعيبي*

الجمعة، ١١ شعبان ١٤٢٨ هـ

البحث عن الكنز ...قصة من الواقع

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد لا بد منه :
في أحد الأيام فوجئت بزيارة من شخص كان يعمل حارساً لدى عائلتنا منذ مدة طويلة وكانت تربطني به علاقة ود وصداقة على الرغم من فارق السن الكبير بيننا ثم انقطع عن العمل فجأة وغاب لفترة طويلة وقد كانت أخباره تصلني بين الحين والآخر ومن أخباره أنه تفرغ لفك السحر والطلاسم لأنه اكتشف أن لديه القدرة على التخاطب مع الجن وتسخيرهم ......... إلى آخر هذه الخزعبلات ، ثم فوجئت بزيارته لي بعد غيابه الطويل وإصراره علي دعوتي للحضور معه إلى قريته لأن لديه شيء هام يريد أن يطلعني عليه فحاولت التملص من الأمر لانشغالي ببعض الأعمال في تلك الفترة بالإضافة إلى أني لا أحب التواجد في تلك المنطقة فهي منطقة مشهورة بالشعوذة وكثير من زوارها ممن يؤمنون بهذه الأمور ولكن الرجل أصر بشكل عجيب ولم يتركني حتى وافقته على الذهاب معه في اليوم التالي ظهراً على أن أعود في نفس اليوم فتهلل الرجل فرحاً وعاد لي في اليوم التالي عند الظهر وقد استأجر سيارة خاصة لتقلنا معاً إلى قريته.
بعد ساعة من السفر في طريق وعرة ومناظر مقفرة وصلنا إلى القرية بعون الله تعالى وقد أصر مضيفي على أن ندخل القرية من الجهة الخلفية القريبة من بيته لأنه لا يريد شيخ القرية الذي هو من أبناء عمومته أن يرانا لأن المدخل الرئيسي للقرية يمر من أمام بيته ، ولما لم يكن لي من الأمر لا حول ولا قوة فلم أبدِ أي اعتراض حتى وصلنا أخيراً إلى بيته وبعد ممارسته لطقوس الضيافة المعتادة جلست متحفزاً ومنتظراً لأعرف منه الأمر الهام الذي رفض أن يبوح به أمام أحد فبادرني بقصته قائلاً :
" منذ فترة كان ولدي الأكبر يراوده حلم عجيب يتكرر كل ليلة إذ أنه يرى نفسه في الجهة الغربية من الجبل المطل على قريتنا وهذه الجهة عبارة عن منحدر مخيف لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه وقد كان ابني يرى في منامه أنه يحفر في أعلى هذا المنحدر وما إن يبدأ الحفر حتى يظهر له ماء يميل لونه إلى الاصفرار ثم يسمع صوتاً يقول له أنه لا يستطيع إكمال الحفر إلا بعد أن يريق دماً هناك ، في البداية لم نلتفت للأمر ولكن الحلم تكرر بشكل يومي حتى تأكد لي أن الحلم رسالة لشيء معين، فذهبت مع ابني إلى تلك المنطقة وذبحنا خروفاً ثم حفرنا في المكان الذي رآه في حلمه فوجدنا هذا"
هنا توقف عن حديثه وسلمني حافظه صغيرة مصنوعة من الجلد ما إن فتحتها حتى وجدت داخلها مجموعة من الأوراق فنظرت إليه متسائلاً فقال :
- لهذا طلبت منك المجيء فلا أنا ولا ابني نستطيع القراءة وقد خشيت أن يطلع عليها شخص من القرية فينتشر الخبر ويستولي عليها الشيخ من دون أن نعرف ما فيها ولم أجد شخصاً آخر أثق به سواك لذلك هلا تفضلت بقراءتها وإخبارنا بما تحتويه ؟؟
شكرته على ثقته بي ثم بدأت أفتح الأوراق الواحدة تلو الأخرى وقراءة ما فيها بصوت مرتفع.
كانت الأوراق قديمة ومتآكلة الأطراف ولكن الخط كان واضحاً وبدأت أقرأ له الأوراق الواحدة تلو أخيرة وكانت عبارة عن وصية تتكون من ثلاث صفحات ذكر فيها كاتبها أنه خبأ مجموعة من التماثيل والعملات الحميرية المصنوعة من الذهب في ثلاثة أماكن متفرقة ووصى من يجدها بأن يتبرع بثلث ما يجده لوجه الله باسم صاحب الوصية كانت الوصية مؤرخة بتاريخ 1305 هجرية إن لم تخني الذاكرة ثم بعد ذلك ورقة لا يظهر عليها أثر القدم مثل الأخريات تحتوي على وصية أخرى لشخص آخر يشير إلى مكانين آخرين فيهما سيوف أثرية مصنوعة من الذهب وبعض العملات الذهبية التركية واشترط نفس الشرط السابق بأن يتبرع من يجدها بثلثها لوجه الله باسم صاحب الوصية وكانت الوصية مؤرخة بتاريخ 1340 هجرية بمعنى أن الفارق الزمني بين الوصيتين كان بحدود خمسة وثلاثين عاماً مع أن الوصية الثانية تبدو أحدث من ذلك بكثير بسبب نوعية الورق ومظهرها أيضاً ومع ذلك كانت الوصيتان في نفس الحافظة..
بعد أن أنهيت قراءتي للأوراق وقبل أن أستوعب ما ورد فيهما تماماً كان الأب وابنه قد بدءا بالشجار فيما بينهما فالابن يصر على أنه صاحب الكنز بينما الأب يصر على أنه من جلب الخروف وقام بذبحه كما أن الابن وما ملك لأبيه لذلك فهو صاحب الكنز فحاولت أن أصلح بينهما وأن أذكرهما بأن عليهما أن يجدا الكنز أولاً ثم يتحدثان عن تقسيمه ولكنهما رفضا الاستماع لي فحاولت الاقتراح بأن يقسماه مناصفة فوافق الأب ورفض الابن وبعد مجهود من الوساطة وصلنا في النهاية إلى اتفاق 60% للابن و40% للأب وكل ذلك قبل أن نتأكد مما ورد في تلك الوصايا وقبل مناقشته..
بعد أن هدأت المشكلة بينهما سألاني عن رأيي بالموضوع فقلت لهم أنتم لم تتركوا مجالاً للمناقشة ولكن بشكل عام الأمر يثير الريبة حتى لو سلمنا جدلاً بأن الوصية الأولى صحيحة فأعتقد أن الوصية الثانية فيها شيء مريب فنوعية الورق المستخدمة في كتابتها حديثة نوعاً ما كما أن الاختلاف الكبير في التاريخ يثير الريبة أيضا فما الذي يثبت لنا أن كاتب الوصية الثانية لم يستولي على ما ورد في الوصية الأولى ؟؟
طبعاً كان الرد هو التجاهل من قبلهما فسألتهما إن كان يعرفان الأماكن التي وردت في الوصايا فقالا أنهما يعرفان مكانين على وجه التحديد من الأماكن التي وردت أسمائها في الوصايا وهي عبارة عن أسماء حقول في الوادي الواقع أسفل القرية ولكن بقية الأماكن لا يعرفانها وسيحاولان معرفتها لاحقاً كان الأمر بالنسبة لي غريباً وقصة من قصص ألف ليلة وليلة ولكن مع ذلك لم أطمئن للموضوع بشكل عام لأنه بدأ بخرافة وشرك وربما سينتهي بما لا يحمد عقباه ، لذلك فقد اكتفيت بهذا القدر من الأسئلة وتمنيت لهما التوفيق وطلبت منهما أن يسمحا لي بمغادرة القرية قبل حلول الظلام وقد كان لي ما طلبت وقد اكتفيا بمرافقتي حتى مدخل القرية لأجد السائق لا زال بانتظاري فركبت السيارة بينما عادا هما أدراجهما.. في طريق عودتي أخذت أراجع نفسي وأفكر في الموضوع من جديد ثم ندمت على تحفظي معهما وتمنيت لو كان بإمكاني العودة إلى القرية مرة أخرى لأرى تفاصيل القصة ما ستؤول إليه الأحداث كما أن الطمع كان قد بدأ يدير رأسي وبدأت أفكر بأنه ربما لو بقيت كنت سأنال من الحب جانباً وسيطولني شيء مما يجداه هذا إن وجدا شيئاً ولكن بما أن السيف كان قد سبق العذل فقد آثرت أن أنسى الموضوع برمته وإن كان ذلك من الصعوبة بمكان لكني انشغلت في الأيام التالية بأمور أخرى كثيرة فتناسيت الأمر ونسيته برمته.خلال الأسابيع التالية لم أسمع شيئاً جديداً عن الكنز ولكن بعد ما يقارب الستة أشهر جاءني الأب بنفس الهيئة التي كان عليها قبلاً من دون أن يطرأ عليه أي تغير فرحبت به واستضفته وسألته عن أخباره وأخبار كنزه فحكى لي الحكاية التالية:
الحكاية
خلال الأسابيع التالية لم أسمع شيئاً جديداً عن الكنز ولكن بعد ما يقارب الستة أشهر جاءني الأب بنفس الهيئة التي كان عليها قبلاً من دون أن يطرأ عليه أي تغير فرحبت به واستضفته وسألته عن أخباره وأخبار كنزه فحكى لي الحكاية التالية:
" بعد أن غادرت أنت القرية ذهبت مع ابني في الليل إلى أحد المواقع المشار إليها في الأوراق التي وجدناها وباشرنا الحفر ولم تمض عشر دقائق على بدء العمل حتى فوجئنا بمجموعة من المسلحين يهجمون علينا وهم يشهرون السلاح بوجوهنا ثم قاموا بتكتيفنا واقتادونا إلى شيخ القرية الذي ما إن رآنا حتى أرعد وأزبد وأخبرنا بأنه يعرف حكايتنا منذ أن حفرنا في الجبل وحصلنا على الأوراق وأنه كان بانتظارنا لأن نشاوره بالأمر ولكننا فضلنا مشاورة الغريب " الذي هو أنت" وقرر مصادرة الأوراق والبحث عن الكنز بنفسه وسيحصل على النصف بينما نحن نحصل على النصف الآخر"
فسألته :
- وهل سلمته الأوراق؟؟
فرد بأنه لم تكن بيده حيلة فقد كانا تحت تهديد السلاح على رغم القرابة التي تربطهم بالشيخ إلا أنه لم يقم لها أي اعتبار وأخذ الأوراق وذهب بنفسه معنا واصطحب معه مرافقيه وبدأنا الحفر..
فحاولت استعجاله بالحديث قائلاً :
- وهل وجدت الكنز ؟؟
فأشار بيده لي لكي أصبر واستطرد قائلاً :" بعد ساعات من الحفر في أكثر من موضع في الحقل لم نجد شيئاً على الرغم من أن الوصية تشير إلى موقع محدد في الحقل وهو الركن الغربي تحت " الطلحة " إلا أننا لم نجد شيئاً في أي مكان فيه ، فذهبنا في الليلة التالية إلى المكان الثاني المذكور في الوصية ولكن الأمر تكرر ولم نجد شيئاً بينما بقية الأماكن لم نستطع تحديدها تماماً بسبب اختلاف المعالم بين ما هو مذكور في الوصية وبين المعالم الحالية للقرية إلا أننا استطعنا أن نحدد مناطق معينة تشبه إلى حد كبير ما ورد في الوصية ولكن المشكلة أن مساحاتها كانت شاسعة ومن الصعب علينا حفرها يدوياً فقررنا الذهاب وبحث الأمر في اليوم التالي وبالطبع كنا نبيت كل ليلة في بيت الشيخ حتى لا تحصل خيانة ولكن في صباح اليوم الثالث فوجئنا بتبادل لإطلاق النار في القرية بين مجموعة مسلحة وبين مرافقي الشيخ فقد انتشر خبر الكنز في القرية بعد رؤية أماكن الحفر في الليلة الأولى كان هناك من يراقب كل الداخلين والخارجين من القرية في الليل كما النساء تكفلن بنقل بقية التفاصيل وهكذا عرفوا بالأمر في الليلة الثانية وقد حاول البعض الاعتداء على منزل الشيخ وسرقة الأوراق بالقوة كونهم أصحاب الحقول التي تم الحفر فيها واستمر الوضع على هذا الحال لمدة أسبوع حتى تدخل عقلاء القرية وألزموا الشيخ وخصومه ونحن كذلك بالتوقيع على اتفاقية تعطينا مع الشيخ ثلث الكنز بينما يتم توزيع الباقي بنسب معينة على القرية بأكملها وبموجب هذا الاتفاق هدأت الأمور"
جلست أحدق فيه ببلاهة وهو يأخذ رشفة من الشاي ثم عاد لمواصلة حكايته قائلاً :
" بعد أن انتهينا من هذه المشكلة وعلى الرغم من الضيم الذي لحقني وولدني إلا أننا قبلنا بالأمر الواقع وبدأنا نبحث المسألة بشكل جماعي بعد أن تيقنا من أن الموضعين الأولين خاليين تماماً فبدأنا نناقش مسألة بقية الأماكن والتي لم نعرفها على وجه التحديد ولكن حصرنا الأماكن التي من الممكن أن تتواجد فيها وهنا قال لنا أحدهم بأنه يعرف شخصاً لديه خبرة باستخراج الكنوز ولديه جهاز يدله عليها ( عرفت فيما بعد أن الجهاز عبارة عن فولتميتر بسيط تمت زخرفته بشكل مبالغ فيه وإضافة قطبين حديديين وعند غرسهما في الأرض وفي حال وجود معدن فان المؤشر يتحرك ) وأن شخصاً في القرية الفلانية استعان به واستخرجوا كنزاً منها وأن ذلك لن يكلفنا الكثير وفي نفس الوقت سيوفر علينا المشقة والبحث اللامتناهي بلا جدوى فوافقنا على الأمر بعد أن قال صاحب المقترح أن الأمر سيكلفنا مئة ألف ريال لا غير وهنا أبدى الشيخ استعداده لدفع المبلغ كاملاً ولكن بشرط أن تزيد حصته من الكنز ولكن البقية رفضوا واتفقوا على جمع المبلغ من جميع المستفيدين من الكنز بالتساوي وبرغم أن بعضهم لم يكن يجد قوت يومه إلا أننا استطعنا جمع المبلغ في غضون يومين فتوجه صاحب المقترح إلى المدينة وعاد بعد يومين ومعه خبير الكنوز ومساعد له"
رشفة أخرى من الشاي ثم قال :
" حتى لا أطيل عليك فقد بدأ الرجل خلال الأيام التالية بالبحث ومسح الوادي طلوعاً ونزولاً وأمرنا أن نحفر هنا وهناك بلا جدوى وبدأ الشك يتسرب إلينا وخيبة الأمل كذلك ولكن الرجل صرخ فينا فجأة بأنه وجد المكان أخيراً وأنه متأكد منه تماماً فهرعنا إليه وأشار لنا أين نحفر فحفرنا وحفرنا حتى صار لدينا حفرة بعمق أربعة أمتار ولكن لم نجد شيئاً فأخذنا نظر إليه والشرر يتطاير من عيوننا ولكنه بدل أن يهرب أخذ حفنة من التراب الذي أخرجناه من الحفرة وأخذ ينظر إليه ثم صرخ قائلاً بأنه حدسه كان في محله وأنه وجد الكنز أخيراً ثم طلب أن نأخذه إلى الشيخ فأخذناه إلى منزل الشيخ وما إن جلس أمام الشيخ حتى قال وجدت لكم ما هو أعظم من كل الكنوز المذكورة في الأوراق التي معكم لقد عثرت لكم على منجم ذهب وأعتقد أنكم لم تفهموا الوصية لأنها كانت للتمويه فالذهب المذكور فيها عبارة عن منجم ثم فتح يده التي كانت فيها حفنة من التراب وقال للشيخ هذا التراب يحتوي على الذهب بكميات كبيرة"قال الراوي :" اقتنع الشيخ بكلام الرجل فالرجل كان صاحب حجة قوية فانتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم وتمت الدعوة إلى اجتماع طارئ فحضر الموقعون على اتفاقية الكنز ثم طرح عليهم الشيخ موضوع المنجم و ترك الخبير يتحدث إليهم فأفاض في شرحه ثم قال أننا بحاجة لمعدات صهر وصب للمعادن لكي نبدأ إنتاج الذهب من التراب الذي أخرجناه بالحفر والتكلفة الإجمالية لهذه المعدات 350 ألف ريال فتململ الحاضرون عند سماع الرقم فأبدى الشيخ استعداده لدفع المبلغ ولكن بشرط أن يحصل على نصف الأرباح وهنا لم يعترض عليه أحد فلا أحد بإمكانه المساهمة بهكذا مبلغ فدفع الشيخ المبلغ للرجل فوراً فغادر الرجل من يومه وترك مساعده لدينا رهينة حتى يعود وما ان غادر الرجل القرية حتى اندفع سكان القرية برجالهم ونسائهم وأنا منهم نحو التراب الذي قال الرجل أنه يحتوي على الذهب وأخذ كل شخص يحاول جمع أكبر كمية من التراب ليأخذها إلى بيته بالنسبة لي استطعت الاستيلاء على عبوة جوالين من ذلك التراب قبل أن يأتي الشيخ ومرافقوه ويطلقوا أعيرة نارية في الهواء لتتفرق الجموع "
توقف صديقي عن السرد فسألته قائلاً :
- وهل عاد الرجل ؟؟
ابتسم صديقي وقال :
- بعد ثلاثة أيام استيقظت القرية على نبأ هروب المساعد ( الرهينة ) وبالطبع لم يعد الرجل ولم يعد المال.سألته مرة أخرى :- وماذا عن الكنز ؟؟
فرد علي ببراءة شديدة قائلاً :
- لا زلنا نحتفظ بالتراب الذي أخبرنا أن فيه الذهب كما أننا نستيقظ كل صباح لنجد حفرة جديدة في القرية والأراضي المحيطة بها حتى طريق السيارات الوحيد المؤدي إلى القرية لم يسلم من الحفر ..
كانت هذه الكلمات هي ختام حديثة ومنذ ذلك اللقاء لم أره مجدداً إذ أني انتقلت إلى مدينة أخرى للعمل ثم هاجرت خارج اليمن ولكن ما وصلني مؤخراً من أخبار هو أنه لا زالت بين الحين والآخر تظهر حفرة في مكان ما من القرية.
إلى هنا تنتهي الحكاية وأنا على ثقة بأن البعض لم تعجبه هذه النهاية ولكن كاتب السطور لا يد له في الأحداث وكل ما قام به هو أن روى لكم القصة كما حدثت ..
عبدالله الشعيبي

الاثنين، ٣ جمادى الآخرة ١٤٢٨ هـ

الجنون فنون

لا أعرف له إسماً معيناً لكني اعرف هيئته وكنت أشاهده أحياناً في طريق عودتي من المدرسة إلى البيت (وكان طريقي يمر وسط السوق الرئيسي في المدينة ) وكنت أرى هذا المجنون دائماً مرتدياً ثوباً طويلاً ممزقاً يصعب تمميز لونه مع أني أعتقد أنه كان أبيضاً يوماً ما (أقصد القميص طبعاً) وكان صاحبنا يمشي شارد الذهن ثم فجأة يتوقف أمام إحدى برك المياة الآسنة التي تخلفها الأمطار في( المطبات) كبيرة الحجم ويتجرد من ثيابه ويبدأ بالإغتسال بذلك الماء عارياً تماماً في وسط سوقٍ مزدحم ويتحول المنظر إلى عرض جماهيري سرعان ما يتحلق حوله الناس (كالعادة).حصل المشهد السابق أمام ناظري مرات عديدة وفي إحدى المرات كان أحد المؤولين في المدينة يمر بسيارته من المكان وشاهد الناس يتحلقون حول المجنون وهو يغتسل بمياه تزيده قذارة لا غير ، وأعتقد أن هذا المنظر حرك شيئاً ما في صدر المسؤول فنزل من سيارته وعرض على المجنون نقوداً ليشتري بها شيئاً يستره ولكن المجنون حلف أغلظ الأيمان بأنه لن يأخذ المال مردداً (مستورة والحمدلله ) .. هذا المشهد رأيته بأم عيني ولن أنساه ماحييت (الجدير بالذكر أني لم أر هذا المجنون يتسول قط ) ..بعدها بمدة رايت ذلك المجنون يتجول في أكثر من شارع مرتدياً قميصاً وإزاراً صنعهما لنفسه من أجولة الدقيق(الشوالات ) وكان يقوم بجمع جالونات زيت الطبخ الفارغة وأيضاً أجولة القمح والدقيق الفارغة وعندما رأيته لم أعر الأمر اهتماماً حقيقياً ولكني أعجبت بالطريقة التي صنع بها ملابسه ثم نسيت الأمر تماماً ولكن في أحد أيام من هذه الحادثة وأثناء اجوالي في أحد الشوارع القريبة من السوق حانت مني إلتفاته لسطح السوق لأرى ذلك المجنون يقف هناك وحوله تترامى مستعمرة ضخمة من جالونات الزيت الفارغة وكانت مرتبة على شكل أكداس كل واحد منها يحتوى نوعاً معيناً من الجالونات أو الأجولة .. وفيما بعد فسر لي أحد أصدقائي( العارفين ببواطن المجانين) بأن ذلك المجنون يقوم بجمع هذه الأشياء من الشوارع ثم يبيعها للمصانع التي تعيد تصنيعها وإستخدامها من جديد (كان ذلك في فترة لم نسمع فيها عن إعادة التصنيع بعد ولم تصبح فيه هذه المهنة مصدر رزق للكثير من الأسر) .. وبصراحة إحترمت طريقة التفكير التي يفكر بها ذلك المجنون والتي لم يفكر بها كثير من العقلاء، ولكن وكما يقال ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فسرعان ما بدأت البلدية بمضايقته والسبب ليس تشويه المنظر العام للسوق ولكن لأنه لم يستأجر السطح منهم أو بمعنى آخر لم يدفع (الأتاوة ) فضايقوه مراراً وحاولوا إبعاده عن السوق وفي كل مرة كان صابحنا يقاتل بشراسة ويخرج منتصراً بسبب تعاطف الناس معه ووقوفهم إلى جانبه ..ثم هدأت مضايقات البلدية له ويبدوا أنهم استسلموا للأمر الواقع .عادت الحياة لسيرتها الأولى بعد أن صرف موظفوا البلدية النظر عن المجنون حتى تفاجأ الناس في أحد الأيام بالمجنون يصرخ ويعول ويلطم على خديه وهو ينبش بين الاكداس الموجودة على السطح ولكما انتهى من أحدها زاد صراخه والناس يضربون يداً بيداً مرديين (لا حول ولا قوة إلا بالله الرجال جنن ) متناسين أنه مجنون أصلاً ... واتصح فيما بعد أن هناك من كان يراقب المجنون وإستطاع معرفة المكان الذي يخبيء فيه المجنون نقوده التي يحصل عليها من بيع الأغراض التي يجمعها (وكان المجنون يخبئها بين الأكداس في سطح السوق ) واستغل اللص ذهاب المجنون ليجمع الأغراض من الشوارع وقام بفعلته .. والمبلغ المسروق يتجاوز ال 600 ألف ريال بقليل (ايام ما كان الريال ريال مثلما كان يردد جدي رحمه الله ) ...و منذ تلك الحادثة لم أر ذلك المجنون مجدداً ..الغريب في الأمر أنه بعد انتشار خبر هذه الحادثة إنخرط في التجارة التي كان يمارسها عدد آخر من المجانين* والكثير من العقلاء