الجمعة، ١٨ شعبان ١٤٢٨ هـ

حوار

شعر بالحرج عندما بدأ الشخص الجالس إلى جواره بالتحدث إليه، أراد أن يعلمه بالحقيقة، ولكنه أحجم عن ذلك عندما لاحظ أن محدثه مستمر في حديثه وكأنه يتحدث إلى فراغ، فأدرك أن محدثه ثرثار من ذلك النوع الذي لا يصغي للآخرين، ولا يترك لأحد فرصة للحديث؛ لذلك ركز نظره على وجه محدثه، مظهرا اهتمامه بما يقول، أخذ يتأمل شفاه محدثه وهي تتحرك انفراجا وانقباضا، بروزا وانبساطا، صانعة لكلمات لا يدري ما هي، أخذ يهز رأسه بين الفينة والأخرى حتى يظهر لمحدثه أنه مهتم لحديثه. بدأ يستمتع بالدور الذي يقوم به، وبرؤية وجه محدثه وهو يحتقن من فرط انفعاله في الحديث؛ حتى بدا كأنه لا يجد فرصة لاستنشاق بعض الهواء، كان يشعر باللذة لرؤية تلك الشفاه وهي تتحرك بسرعة كأنها في سباق، كان يشعر بالسعادة كطفل حصل على لعبة جديدة، ما كان يضايقه فعلا هو ذلك الرذاذ المتطاير من فم محدثه، ولكنه تجاهل ذلك حتى لا يفوت المتعة التي يشعر بها.
مر الوقت سريعا بشكل لم يكن يتوقعه ولم يشعر به إلا عندما أحس بيد تربت على كتفه، فالتفت ليجد أخاه يشير بأنه قد حان وقت الذهاب، ثم توجه أخوه بالحديث إلى الشخص الذي كان يتحدث إليه قائلا: - أشكرك يا سيدي على جلوسك مع أخي، يبدو أنه قد استمتع بجلوسك معه، إنها المرة الأولى التي أجده فيها سعيدا بجلوسه مع شخص ما، إنه يجد صعوبة في التأقلم مع الآخرين لأنه يخجل من إعاقته.
رد عليه الرجل متسائلا: -إعاقة؟!!
لم يسمع الأخ تساؤل الرجل، ولكنه أردف قائلا:
- ولكني أعجب كيف استطعت التفاهم معه؟ هل لديك قريب مصاب بالصمم؟ - فغر الرجل فاه مدهوشا والتفت إلى جليسه ليرى ابتسامة ساخرة تتراقص على شفتيه.
عبدالله الشعيبي
2002

ثورة

- دعاني أحد اصدقائي الى بيته كي نتناول القات معا فلبيت دعوته وذهبت الى بيته المتواضع جدا والذي يعتلي سطحه صحن لاقط في تناقض واضح بين شكل البيت وحداثة الصحن ثم أدخلني صديقي الى المنزل وجلسنا في احدى الغرف والتي كان اثاثها عتيقاً ورثا عدا جهاز التلفاز وجهاز استقبال القنوات الفضائية واللذين كانا حديثين بشكل لا يتناسب بتاتا مع بقية الأثاث فتجاهلت الأمر وجلست أتناول القات مع صديقي , ومن سوء حظنا أن جهاز استقبال القنوات الفضائية كان معطلا فأخذنا نشاهد القناة المحلية اضطرارا وإذ نحن جالسان دخل علينا طفل عمره لا يتجاوز السنوات السبع ولكن هيئته كانت تحمل تناقضات غريبة فجسده الهزيل والنحيل وقامته القصيره تجعلك تظن أن عمره لا يتجاوز السنوات الثلاث أما وجهه الشاحب ونظراته الزائغه توحي اليك بأنك تنظر الى كهل حتى أنك تصاب بنوع من الخداع البصري الذي يجعلك تظن أنك ترى بعض التجاعيد محفورة على ذلك الطفل فالتفت الى صديقي أسأله عن الطفل فأخبرني مزهواً أنه ابنه ثم طلب من الطفل أن يصافحني فجاء الولد الي ومد يده ببلاهة وهو لا ينظر الي فمددت يدي اليه وصافحته ثم انصرف من أمامي وذهب للجلوس قبالة التلفاز يشاهد ما يعرض على شاشته بينما كنت أحاول أن أصرف نظري عن ذلك الطفل الكهل وبدأت أشغل نفسي بالحديث مع صديقي حول مواضيع عده حتى تناسيت أمر الطفل تماما وتشعب الحديث بيننا مع مرور الوقت ثم بدأ الحديث يفتر تدريجيا بيننا كلما ازداد تأثير القات حتى صمتنا عن الحديث تماما عندما وصل تأثير القات ذروته وبدأت أشعر بالملل فأخذت أتابع التلفاز صرفا للملل .
كان التلفاز يعرض برنامجا عن منجزات الثوره وتأثيرها على نواحي الحياة المختلفة والتطور الذي شهدته البلاد منذ قيام الثورة في كافة المجالات وكنت أتابع الصور التي تعرض على الشاشة بغير اهتمام حقيقي فقد صرت أحفظ تلك الصور والمشاهد عن ظهر قلب لكثرة ما تم تعذيبنا بعرضها ليلا ونهارا بمناسبة وبغير مناسبة , بدأت أشعر بالضيق كأني سجين يتم تعذيبه في احد المعسكرات النازية ذات السمعة السيئة وأخذت الثواني تمر علي كأنها دهور حتى وصل البرنامج الى الحديث عن النهضة التعليمية التي أحدثتها الثورة وأخذ التلفاز يعرض صوراً لأطفال يدرسون في احدى المدارس االخاصة ويلعبون في أفنيتها فتذكرت ابن صديقي الذي كنت قد نسيته والتفت اليه فوجدته يتابع مايعرض على التلفاز في بلاهة فأخذت أنقل بصري بين الأطفال الذين يظهرون على شاشة التلفاز وبين ذلك الطفل الجالس أمامي فكنت أنظر الى التلفاز فأرى أطفالا ينعمون بصحة وافرة تبدوا واضحة في بريق عيونهم ونضارة وجوههم ثم أنظر الى ابن صديقي فأرى النقيض من ذلك تماما , كنت أرى الأطفال في التلفاز يمرحون ويتقافزون هنا وهناك في نشاط واضح وأنظر الى ابن صديقي فأرى وجها كئيباً يتثاءب كسلحفاة بلغت من العمر عتيا , كنت أرى في التلفاز أطفالا بملابس نظيفة وأنيقة وأنظر الى ابن صديقي فأرى طفلا بملابس رثه ومتسخة قد أكل الدهرعليها وشرب وتكاد تتمزق من فرط ضيقها وكأن ذلك الطفل لم يغير ملابسه منذ أن كان رضيعاً ,كانت تلك المقارنه تثير سخرية مريره وكأننا نشاهد بشراً من عالم أخر , ويبدوا أن صديقي قد أدرك ذلك وبدأ يشعر بالضيق عندما لا حظ تنقل نظراتي بين طفله وبين التلفاز فما كان منه الا أن قام باطفاء التلفاز وهو يسب ويلعن التلفاز لعرضه مثل هذه البرامج المملة والمكررة فشعرت بالحرج الشديد وأخذت أتظاهر بعدم الاهتمام بينما أخذ ذلك الطفل يلعب بأصابعه لعبة غريبه ثم التفت فجأة الى والده وهو يسأله :
أبي ما هي الثورة ؟ هل هي زوجة الثور ؟
عبدالله الشعيبي
2002

على الواقف

على الواقف
إحساس غير مريح البتة عندما تشعر بأنك بحاجة لأن تحك ساقيك ولكنك لا تجرؤ على ذلك، تتقلص أصابع قدميك في حركة عصبية في محاولة من الدماغ لتشتيت انتباهك عن الشعور الذي ينتابك الآن لكن الغريب في الأمر أن هذه ليست المرة الأولى التي ينتابك فيها هذا الشعور فمنذ طفولتك وأنت معتاد على الوقوف لساعات على قدميك وأحياناً على قدمٍ واحدة عندما كان الأستاذ "عفيف" يعاقبك على كسلك في عمل الواجبات وعلى غبائك في الصف. لكن الوقوف حتى على قدمٍ واحدة في تلك الفترة لم يكن مؤلماً ومزعجاً مثل ما هو عليه الآن ، كنت لا تزال يافعاً وكانت وضعية الوقوف تلك نوعاً من الرياضة والتسلية في آنٍ معاً خصوصاً عندما يدير الأستاذ " عفيف" ظهره ناحية التلاميذ فتقوم بإنزال قدمك وصانعاً بوجهك أشكالاً مضحكة تجعل كل من الصف ينفجر ضاحكاً بينما يحمر وجه الأستاذ "عفيف" غضباً ويتجه إليك ليصفعك ويدير وجهك نحو الحائط مرة أخرى.
- أين أيام الأستاذ " عفيف "؟
تقولها لنفسك متنهداً ومتحسراً على تلك الأيام ، فلم ترَ بعد الأستاذ "عفيف" سوى البؤس والشقاء وقد بدأت رحلة شقائك عندما غادرت المدرسة بسبب ضيق ذات يد الأسرة الكريمة واضطررت للعمل في السوق واقفاً أمام "بسطة " للخضروات في تلك السن المبكرة من عمرك لكي تساعد والدك الذي يكد ويتعب لإطعام الأفواه الخمسة عشر التي تنتظره في بيت الصفيح الواقع في الضاحية الجنوبية للمدينة ومرت سنين الطفولة ثم المراهقة وأنت واقف على قدميك كل يوم في السوق لتحصل في نهاية اليوم على دراهم بالكاد تسد الرمق.لا زلت تتذكر ذلك اليوم الذي رأيت فيه صاحب البسطة المجاورة "محمود الصايع" (المختفي منذ أشهر) حليق الرأس نافخاً صدره مزهواَ باللباس العسكري الذي يرتديه وماشياً في خيلاء من أمام بائعات الخبز ثم يتجه نحوك ليجدد العهد القديم ويمازحك وتعرف منه أنه التحق بالجيش عن طريق أحد أقاربه الذي ترقى منذ فترة بسيطة إلى صف ضابط ولكنه صاحب علاقات واسعة في وحدته العسكرية.عرض عليك محمود مشروع العمر وبأنه بإمكانه أن يسهل لك طريقة للالتحاق بالجيش ولن يكلفك ذلك سوى مبلغ بسيط تدفعه لابن عمه وترتاح بعدها من عناء الوقوف اليومي في السوق والصراع على دراهم قليلة لا تكاد تسد رمقك ، لم يدم تفكيرك في الأمر طويلاً إذ أنك سرعان ما بعت البسطة التي كنت تعمل عليها واستدنت مبلغاً صغيراً من جارك "أبو سعيد" ولم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً حتى صرت مجنداً.
في المعسكر قالوا لك أن الفترة التدريبية هي الأشق وعليك احتمالها لتنعم بالراحة فيما بعد ، ولكنك كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار إذ أنه سرعان ما تبينت لك حسنات الوقوف في السوق مقارنة بالوقوف في طابور المعسكر ففي السوق كنت تنشغل بحركة البيع وإرضاء الزبائن والتحدث مع جيرانك في السوق عن وضعية الوقوف التي صارت ملازمة لك أما في المعسكر فيجب عليك أن تقف لساعات كالصنم دون حركة أو كلمة أو همسة ولو كان بيدهم أن يمنعوا رئتيك من التنفس وقلبك من الخفقان لفعلوها ، كانت تلك الفترة هي العذاب بعينه وكان شعورك بالحاجة إلى أن تحك ساقيك يثير جنونك حتى أنك تمنيت في يوم من الأيام أن تكون بلا ساقين.
مرت الفترة التدريبية بسلام (نوعاً ما) وكنت تتمنى في قرارة نفسك أن يعينوك في إحدى كتائب السلاح وحبذا لو كان سلاحاً له مقعد كالدبابات أو مضاد الطيران ليتاح لك الجلوس طوال اليوم ولكن المشكلة أنك كنت جيداً جداً في فترة التدريب الأمر الذي أثار إعجاب قائد الوحدة والذي أصر على تكريمك بتعيينك حاجبا لباب مكتبة وهو عمل مريح (من وجهة نظره ) وسيكفيك عناء الطوابير اليومية في الوحدة.
كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً وها أنت اليوم لا تزال واقفاً أمام مكتب القائد وتتمنى لو أنك ولدت بلا ساقين أقله لن تشعر بالحاجة لأن تحك ساقين لا تمتلكهما ، قد يكون الموت هو خلاصك الوحيد من هذا العذاب ولكنك رجل مؤمن ولن ترتكب عملاً أحمقاً يكبك على وجهك في جهنم، كما أنك لا تعلم أنك ستموت بعد عامين بسكتة قلبية سببها الإجهاد وكذلك لا تعلم أنه في نفس اليوم سيصدر قرارٌ حكومي بجعل القبور طولية بسبب ازدحام المقابر.
عبدالله أحمد الشعيبي*

الجمعة، ١١ شعبان ١٤٢٨ هـ

البحث عن الكنز ...قصة من الواقع

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد لا بد منه :
في أحد الأيام فوجئت بزيارة من شخص كان يعمل حارساً لدى عائلتنا منذ مدة طويلة وكانت تربطني به علاقة ود وصداقة على الرغم من فارق السن الكبير بيننا ثم انقطع عن العمل فجأة وغاب لفترة طويلة وقد كانت أخباره تصلني بين الحين والآخر ومن أخباره أنه تفرغ لفك السحر والطلاسم لأنه اكتشف أن لديه القدرة على التخاطب مع الجن وتسخيرهم ......... إلى آخر هذه الخزعبلات ، ثم فوجئت بزيارته لي بعد غيابه الطويل وإصراره علي دعوتي للحضور معه إلى قريته لأن لديه شيء هام يريد أن يطلعني عليه فحاولت التملص من الأمر لانشغالي ببعض الأعمال في تلك الفترة بالإضافة إلى أني لا أحب التواجد في تلك المنطقة فهي منطقة مشهورة بالشعوذة وكثير من زوارها ممن يؤمنون بهذه الأمور ولكن الرجل أصر بشكل عجيب ولم يتركني حتى وافقته على الذهاب معه في اليوم التالي ظهراً على أن أعود في نفس اليوم فتهلل الرجل فرحاً وعاد لي في اليوم التالي عند الظهر وقد استأجر سيارة خاصة لتقلنا معاً إلى قريته.
بعد ساعة من السفر في طريق وعرة ومناظر مقفرة وصلنا إلى القرية بعون الله تعالى وقد أصر مضيفي على أن ندخل القرية من الجهة الخلفية القريبة من بيته لأنه لا يريد شيخ القرية الذي هو من أبناء عمومته أن يرانا لأن المدخل الرئيسي للقرية يمر من أمام بيته ، ولما لم يكن لي من الأمر لا حول ولا قوة فلم أبدِ أي اعتراض حتى وصلنا أخيراً إلى بيته وبعد ممارسته لطقوس الضيافة المعتادة جلست متحفزاً ومنتظراً لأعرف منه الأمر الهام الذي رفض أن يبوح به أمام أحد فبادرني بقصته قائلاً :
" منذ فترة كان ولدي الأكبر يراوده حلم عجيب يتكرر كل ليلة إذ أنه يرى نفسه في الجهة الغربية من الجبل المطل على قريتنا وهذه الجهة عبارة عن منحدر مخيف لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه وقد كان ابني يرى في منامه أنه يحفر في أعلى هذا المنحدر وما إن يبدأ الحفر حتى يظهر له ماء يميل لونه إلى الاصفرار ثم يسمع صوتاً يقول له أنه لا يستطيع إكمال الحفر إلا بعد أن يريق دماً هناك ، في البداية لم نلتفت للأمر ولكن الحلم تكرر بشكل يومي حتى تأكد لي أن الحلم رسالة لشيء معين، فذهبت مع ابني إلى تلك المنطقة وذبحنا خروفاً ثم حفرنا في المكان الذي رآه في حلمه فوجدنا هذا"
هنا توقف عن حديثه وسلمني حافظه صغيرة مصنوعة من الجلد ما إن فتحتها حتى وجدت داخلها مجموعة من الأوراق فنظرت إليه متسائلاً فقال :
- لهذا طلبت منك المجيء فلا أنا ولا ابني نستطيع القراءة وقد خشيت أن يطلع عليها شخص من القرية فينتشر الخبر ويستولي عليها الشيخ من دون أن نعرف ما فيها ولم أجد شخصاً آخر أثق به سواك لذلك هلا تفضلت بقراءتها وإخبارنا بما تحتويه ؟؟
شكرته على ثقته بي ثم بدأت أفتح الأوراق الواحدة تلو الأخرى وقراءة ما فيها بصوت مرتفع.
كانت الأوراق قديمة ومتآكلة الأطراف ولكن الخط كان واضحاً وبدأت أقرأ له الأوراق الواحدة تلو أخيرة وكانت عبارة عن وصية تتكون من ثلاث صفحات ذكر فيها كاتبها أنه خبأ مجموعة من التماثيل والعملات الحميرية المصنوعة من الذهب في ثلاثة أماكن متفرقة ووصى من يجدها بأن يتبرع بثلث ما يجده لوجه الله باسم صاحب الوصية كانت الوصية مؤرخة بتاريخ 1305 هجرية إن لم تخني الذاكرة ثم بعد ذلك ورقة لا يظهر عليها أثر القدم مثل الأخريات تحتوي على وصية أخرى لشخص آخر يشير إلى مكانين آخرين فيهما سيوف أثرية مصنوعة من الذهب وبعض العملات الذهبية التركية واشترط نفس الشرط السابق بأن يتبرع من يجدها بثلثها لوجه الله باسم صاحب الوصية وكانت الوصية مؤرخة بتاريخ 1340 هجرية بمعنى أن الفارق الزمني بين الوصيتين كان بحدود خمسة وثلاثين عاماً مع أن الوصية الثانية تبدو أحدث من ذلك بكثير بسبب نوعية الورق ومظهرها أيضاً ومع ذلك كانت الوصيتان في نفس الحافظة..
بعد أن أنهيت قراءتي للأوراق وقبل أن أستوعب ما ورد فيهما تماماً كان الأب وابنه قد بدءا بالشجار فيما بينهما فالابن يصر على أنه صاحب الكنز بينما الأب يصر على أنه من جلب الخروف وقام بذبحه كما أن الابن وما ملك لأبيه لذلك فهو صاحب الكنز فحاولت أن أصلح بينهما وأن أذكرهما بأن عليهما أن يجدا الكنز أولاً ثم يتحدثان عن تقسيمه ولكنهما رفضا الاستماع لي فحاولت الاقتراح بأن يقسماه مناصفة فوافق الأب ورفض الابن وبعد مجهود من الوساطة وصلنا في النهاية إلى اتفاق 60% للابن و40% للأب وكل ذلك قبل أن نتأكد مما ورد في تلك الوصايا وقبل مناقشته..
بعد أن هدأت المشكلة بينهما سألاني عن رأيي بالموضوع فقلت لهم أنتم لم تتركوا مجالاً للمناقشة ولكن بشكل عام الأمر يثير الريبة حتى لو سلمنا جدلاً بأن الوصية الأولى صحيحة فأعتقد أن الوصية الثانية فيها شيء مريب فنوعية الورق المستخدمة في كتابتها حديثة نوعاً ما كما أن الاختلاف الكبير في التاريخ يثير الريبة أيضا فما الذي يثبت لنا أن كاتب الوصية الثانية لم يستولي على ما ورد في الوصية الأولى ؟؟
طبعاً كان الرد هو التجاهل من قبلهما فسألتهما إن كان يعرفان الأماكن التي وردت في الوصايا فقالا أنهما يعرفان مكانين على وجه التحديد من الأماكن التي وردت أسمائها في الوصايا وهي عبارة عن أسماء حقول في الوادي الواقع أسفل القرية ولكن بقية الأماكن لا يعرفانها وسيحاولان معرفتها لاحقاً كان الأمر بالنسبة لي غريباً وقصة من قصص ألف ليلة وليلة ولكن مع ذلك لم أطمئن للموضوع بشكل عام لأنه بدأ بخرافة وشرك وربما سينتهي بما لا يحمد عقباه ، لذلك فقد اكتفيت بهذا القدر من الأسئلة وتمنيت لهما التوفيق وطلبت منهما أن يسمحا لي بمغادرة القرية قبل حلول الظلام وقد كان لي ما طلبت وقد اكتفيا بمرافقتي حتى مدخل القرية لأجد السائق لا زال بانتظاري فركبت السيارة بينما عادا هما أدراجهما.. في طريق عودتي أخذت أراجع نفسي وأفكر في الموضوع من جديد ثم ندمت على تحفظي معهما وتمنيت لو كان بإمكاني العودة إلى القرية مرة أخرى لأرى تفاصيل القصة ما ستؤول إليه الأحداث كما أن الطمع كان قد بدأ يدير رأسي وبدأت أفكر بأنه ربما لو بقيت كنت سأنال من الحب جانباً وسيطولني شيء مما يجداه هذا إن وجدا شيئاً ولكن بما أن السيف كان قد سبق العذل فقد آثرت أن أنسى الموضوع برمته وإن كان ذلك من الصعوبة بمكان لكني انشغلت في الأيام التالية بأمور أخرى كثيرة فتناسيت الأمر ونسيته برمته.خلال الأسابيع التالية لم أسمع شيئاً جديداً عن الكنز ولكن بعد ما يقارب الستة أشهر جاءني الأب بنفس الهيئة التي كان عليها قبلاً من دون أن يطرأ عليه أي تغير فرحبت به واستضفته وسألته عن أخباره وأخبار كنزه فحكى لي الحكاية التالية:
الحكاية
خلال الأسابيع التالية لم أسمع شيئاً جديداً عن الكنز ولكن بعد ما يقارب الستة أشهر جاءني الأب بنفس الهيئة التي كان عليها قبلاً من دون أن يطرأ عليه أي تغير فرحبت به واستضفته وسألته عن أخباره وأخبار كنزه فحكى لي الحكاية التالية:
" بعد أن غادرت أنت القرية ذهبت مع ابني في الليل إلى أحد المواقع المشار إليها في الأوراق التي وجدناها وباشرنا الحفر ولم تمض عشر دقائق على بدء العمل حتى فوجئنا بمجموعة من المسلحين يهجمون علينا وهم يشهرون السلاح بوجوهنا ثم قاموا بتكتيفنا واقتادونا إلى شيخ القرية الذي ما إن رآنا حتى أرعد وأزبد وأخبرنا بأنه يعرف حكايتنا منذ أن حفرنا في الجبل وحصلنا على الأوراق وأنه كان بانتظارنا لأن نشاوره بالأمر ولكننا فضلنا مشاورة الغريب " الذي هو أنت" وقرر مصادرة الأوراق والبحث عن الكنز بنفسه وسيحصل على النصف بينما نحن نحصل على النصف الآخر"
فسألته :
- وهل سلمته الأوراق؟؟
فرد بأنه لم تكن بيده حيلة فقد كانا تحت تهديد السلاح على رغم القرابة التي تربطهم بالشيخ إلا أنه لم يقم لها أي اعتبار وأخذ الأوراق وذهب بنفسه معنا واصطحب معه مرافقيه وبدأنا الحفر..
فحاولت استعجاله بالحديث قائلاً :
- وهل وجدت الكنز ؟؟
فأشار بيده لي لكي أصبر واستطرد قائلاً :" بعد ساعات من الحفر في أكثر من موضع في الحقل لم نجد شيئاً على الرغم من أن الوصية تشير إلى موقع محدد في الحقل وهو الركن الغربي تحت " الطلحة " إلا أننا لم نجد شيئاً في أي مكان فيه ، فذهبنا في الليلة التالية إلى المكان الثاني المذكور في الوصية ولكن الأمر تكرر ولم نجد شيئاً بينما بقية الأماكن لم نستطع تحديدها تماماً بسبب اختلاف المعالم بين ما هو مذكور في الوصية وبين المعالم الحالية للقرية إلا أننا استطعنا أن نحدد مناطق معينة تشبه إلى حد كبير ما ورد في الوصية ولكن المشكلة أن مساحاتها كانت شاسعة ومن الصعب علينا حفرها يدوياً فقررنا الذهاب وبحث الأمر في اليوم التالي وبالطبع كنا نبيت كل ليلة في بيت الشيخ حتى لا تحصل خيانة ولكن في صباح اليوم الثالث فوجئنا بتبادل لإطلاق النار في القرية بين مجموعة مسلحة وبين مرافقي الشيخ فقد انتشر خبر الكنز في القرية بعد رؤية أماكن الحفر في الليلة الأولى كان هناك من يراقب كل الداخلين والخارجين من القرية في الليل كما النساء تكفلن بنقل بقية التفاصيل وهكذا عرفوا بالأمر في الليلة الثانية وقد حاول البعض الاعتداء على منزل الشيخ وسرقة الأوراق بالقوة كونهم أصحاب الحقول التي تم الحفر فيها واستمر الوضع على هذا الحال لمدة أسبوع حتى تدخل عقلاء القرية وألزموا الشيخ وخصومه ونحن كذلك بالتوقيع على اتفاقية تعطينا مع الشيخ ثلث الكنز بينما يتم توزيع الباقي بنسب معينة على القرية بأكملها وبموجب هذا الاتفاق هدأت الأمور"
جلست أحدق فيه ببلاهة وهو يأخذ رشفة من الشاي ثم عاد لمواصلة حكايته قائلاً :
" بعد أن انتهينا من هذه المشكلة وعلى الرغم من الضيم الذي لحقني وولدني إلا أننا قبلنا بالأمر الواقع وبدأنا نبحث المسألة بشكل جماعي بعد أن تيقنا من أن الموضعين الأولين خاليين تماماً فبدأنا نناقش مسألة بقية الأماكن والتي لم نعرفها على وجه التحديد ولكن حصرنا الأماكن التي من الممكن أن تتواجد فيها وهنا قال لنا أحدهم بأنه يعرف شخصاً لديه خبرة باستخراج الكنوز ولديه جهاز يدله عليها ( عرفت فيما بعد أن الجهاز عبارة عن فولتميتر بسيط تمت زخرفته بشكل مبالغ فيه وإضافة قطبين حديديين وعند غرسهما في الأرض وفي حال وجود معدن فان المؤشر يتحرك ) وأن شخصاً في القرية الفلانية استعان به واستخرجوا كنزاً منها وأن ذلك لن يكلفنا الكثير وفي نفس الوقت سيوفر علينا المشقة والبحث اللامتناهي بلا جدوى فوافقنا على الأمر بعد أن قال صاحب المقترح أن الأمر سيكلفنا مئة ألف ريال لا غير وهنا أبدى الشيخ استعداده لدفع المبلغ كاملاً ولكن بشرط أن تزيد حصته من الكنز ولكن البقية رفضوا واتفقوا على جمع المبلغ من جميع المستفيدين من الكنز بالتساوي وبرغم أن بعضهم لم يكن يجد قوت يومه إلا أننا استطعنا جمع المبلغ في غضون يومين فتوجه صاحب المقترح إلى المدينة وعاد بعد يومين ومعه خبير الكنوز ومساعد له"
رشفة أخرى من الشاي ثم قال :
" حتى لا أطيل عليك فقد بدأ الرجل خلال الأيام التالية بالبحث ومسح الوادي طلوعاً ونزولاً وأمرنا أن نحفر هنا وهناك بلا جدوى وبدأ الشك يتسرب إلينا وخيبة الأمل كذلك ولكن الرجل صرخ فينا فجأة بأنه وجد المكان أخيراً وأنه متأكد منه تماماً فهرعنا إليه وأشار لنا أين نحفر فحفرنا وحفرنا حتى صار لدينا حفرة بعمق أربعة أمتار ولكن لم نجد شيئاً فأخذنا نظر إليه والشرر يتطاير من عيوننا ولكنه بدل أن يهرب أخذ حفنة من التراب الذي أخرجناه من الحفرة وأخذ ينظر إليه ثم صرخ قائلاً بأنه حدسه كان في محله وأنه وجد الكنز أخيراً ثم طلب أن نأخذه إلى الشيخ فأخذناه إلى منزل الشيخ وما إن جلس أمام الشيخ حتى قال وجدت لكم ما هو أعظم من كل الكنوز المذكورة في الأوراق التي معكم لقد عثرت لكم على منجم ذهب وأعتقد أنكم لم تفهموا الوصية لأنها كانت للتمويه فالذهب المذكور فيها عبارة عن منجم ثم فتح يده التي كانت فيها حفنة من التراب وقال للشيخ هذا التراب يحتوي على الذهب بكميات كبيرة"قال الراوي :" اقتنع الشيخ بكلام الرجل فالرجل كان صاحب حجة قوية فانتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم وتمت الدعوة إلى اجتماع طارئ فحضر الموقعون على اتفاقية الكنز ثم طرح عليهم الشيخ موضوع المنجم و ترك الخبير يتحدث إليهم فأفاض في شرحه ثم قال أننا بحاجة لمعدات صهر وصب للمعادن لكي نبدأ إنتاج الذهب من التراب الذي أخرجناه بالحفر والتكلفة الإجمالية لهذه المعدات 350 ألف ريال فتململ الحاضرون عند سماع الرقم فأبدى الشيخ استعداده لدفع المبلغ ولكن بشرط أن يحصل على نصف الأرباح وهنا لم يعترض عليه أحد فلا أحد بإمكانه المساهمة بهكذا مبلغ فدفع الشيخ المبلغ للرجل فوراً فغادر الرجل من يومه وترك مساعده لدينا رهينة حتى يعود وما ان غادر الرجل القرية حتى اندفع سكان القرية برجالهم ونسائهم وأنا منهم نحو التراب الذي قال الرجل أنه يحتوي على الذهب وأخذ كل شخص يحاول جمع أكبر كمية من التراب ليأخذها إلى بيته بالنسبة لي استطعت الاستيلاء على عبوة جوالين من ذلك التراب قبل أن يأتي الشيخ ومرافقوه ويطلقوا أعيرة نارية في الهواء لتتفرق الجموع "
توقف صديقي عن السرد فسألته قائلاً :
- وهل عاد الرجل ؟؟
ابتسم صديقي وقال :
- بعد ثلاثة أيام استيقظت القرية على نبأ هروب المساعد ( الرهينة ) وبالطبع لم يعد الرجل ولم يعد المال.سألته مرة أخرى :- وماذا عن الكنز ؟؟
فرد علي ببراءة شديدة قائلاً :
- لا زلنا نحتفظ بالتراب الذي أخبرنا أن فيه الذهب كما أننا نستيقظ كل صباح لنجد حفرة جديدة في القرية والأراضي المحيطة بها حتى طريق السيارات الوحيد المؤدي إلى القرية لم يسلم من الحفر ..
كانت هذه الكلمات هي ختام حديثة ومنذ ذلك اللقاء لم أره مجدداً إذ أني انتقلت إلى مدينة أخرى للعمل ثم هاجرت خارج اليمن ولكن ما وصلني مؤخراً من أخبار هو أنه لا زالت بين الحين والآخر تظهر حفرة في مكان ما من القرية.
إلى هنا تنتهي الحكاية وأنا على ثقة بأن البعض لم تعجبه هذه النهاية ولكن كاتب السطور لا يد له في الأحداث وكل ما قام به هو أن روى لكم القصة كما حدثت ..
عبدالله الشعيبي