الأحد، ٤ رمضان ١٤٢٨ هـ

رمضان وأيام الطفولة

في أيام الطفولة الأولى كان رمضان في مدينة إب يعني لي شعر البنات ( أحد أنواع الحلوى الرمضانية المشهورة في إب )، الملبس ، الملوز ، الرواني ، المحلبية ، البقلاوة ، الكنافة ( مع أني لا أحبها ) ، الشفوت .. وأيضاً الشوارع الخالية من البشر صباحاً والمزدحمة مساءً ..ثم بعد ذلك وفي سن السابعة أو الثامنة تقريباً عندما بدأت أصوم تغيرت نظرتي لرمضان ( قليلاً ) فبالإضافة إلى ما ذكرته سابقاً كان رمضان يعني لي المعارك اليومية حول الصيام ( حيث لم يكن الأهل يسمحون لنا سوى أن نصوم يوماً ونفطر يوماً وكنا نفطر إجبارياً وأحياناً باستخدام العصى ) وأيضاُ كان رمضان يعني محاولة السهر على قدر الاستطاعة والنوم قبالة التلفاز حتى وقت السحور لنستيقظ عندها ونتناول السحور و نحن أنصاف نيام ثم صلاة الفجر في المسجد والنوم مرة أخرى حتى العاشرة صباحاً ( إجبارياً أيضاً حتى لا نوقظ الحي بصراخنا في الشارع إن استيقظنا مبكرين ) ، والأهم من ذلك كله كان رمضان يعني اللعب في الشارع حتى الساعة العاشرة مساءً وهذا هو محور حديثنا هنا ..كانت لدينا العديد من الألعاب و في كل سنة نخترع لعبة جديدة بعد أن تنتهي اللعبة اللي لعبناها في العام الماضي بكارثة نبدأ في التفكير والابتكار ومن الألعاب التي لا زالت عالقة في ذهني ( علي بابا والأربعين حرامي ، حرب العصابات ، الكاميرا الخفية ) .علي بابا والأربعين حرامي :اللعبة ببساطة عبارة عن زعيم ( والذي كان أكبرنا سناً وأكثرنا شراسة ) ونسميه علي بابا ثم الأربعين حرامي وهم بقية الأطفال ( كنا في حدود الخمسة أو الستة أطفال تقريباً) وعلينا أن ننفذ طلبات الزعيم والتي هي عبارة عن أوامره بسرقة شيء ما مثل الفاكهة الفلانية من السوق المركزي للمدينة والذي يقع في حارتنا والخطة كانت تتلخص في أن يذهب أحد الأطفال ويسأل عن سعر الفاكهة ليشغل البائع بينما يأتي طفل آخر من الجهة الأخرى ويأخذ تفاحة مثلاً وكانت غالباً ما تنجح تلك الحيلة وفي حال لم تنجح واكتشف البائع الأمر كان الطفلان يطلقان ساقيهما للريح ومن الصعب الإمساك بهما .من أطرف المواقف التي حصلت أنه في أحد الأيام بينما كان دور ابن عمي في سرقة الفاكهة وبعد أن نجح في ذلك وكان في طريقه إلينا هرب ديك من أحد الأقفاص في السوق وكان البائع يطارده ويصرخ امسكوووووووه امسكوووووووووووه وكان يعدو باتجاه ابن عمي ففزع ابن عمي وظن أن الرجل كان يقصده هو فرمى الفاكهة من يده وأخذ يجري وهو يصيح ( والله ما هو أنا والله ما هو أنا ) .انتهت هذه اللعبة بعد أن اشتكي أحد الباعة في السوق إلى جارنا وأخبره أنه رأى ابنه يسرق من إحدى ( البسطات ) في السوق وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم بين الآباء وبعد أن طبق علينا الكبار أساليبهم التربوية التي لم تخرج عن شد الآذان وركل المؤخرات عرفنا حينها أن السرقة إن لم تكن محرمة فإن عواقبها وخيمة..حرب العصابات:أعتقد أن كثيراً من الأعضاء قد مارسوها بشكل أو بآخر وكانت اللعبة ( أو بالأصح الكارثة) تتلخص في أن يجتمع أطفال الحي الذي نقطن فيه لنشكل عصابة واحدة ثم نبعث مبعوثاً للحي المجاور ليخبر من يعرف من أطفال ذلك الحي بأننا قد أعلنا الحرب عليهم وأن عليهم أن يستعدوا أو العكس بمعنى أن يأتي مبعوث من الحي الآخر ليخبرنا بأنهم أعلنوا الحرب علينا وأن علينا أن نستعد ويتم تحديد موعد المعركة في يوم محدد ويمضي الطرفان الأيام السابقة للمعركة في تجهيز الأسلحة والتي تكون عبارة عن سيوف معدنية مصنوعة يدوياً من بقايا الأحزمة المعدنية التي تلف صناديق البضائع وأيضاً بعض العصي والمقلاع ( المنفط باللهجة الدارجة في إب، القوس باللهجة الدارجة في صنعاء) ثم يأتي وقت المعركة ويحدث الالتحام والمطاردات في الشوارع والأزقة وبين السيارات و تحدث عمليات أسر وتعذيب للأسرى ( يتم تقييد الأسير ثم جلده في تقليد للمسلسلات التاريخية التي كنا نشاهدها في رمضان) وبعد ذلك يأتي تبادل الأسرى ( انتو فلتوا لأسيرنا واحنا نفلت أسيركم ) والحقيقة أننا كنا نتمتع بأخلاق الفرسان فبعد أن نبرم الاتفاق يلتزم كل طرف بتسليم الأسرى للطرف الآخر وكانت المعركة تنتهي فقط إن تم أسر زعيم العصابة وتعتبر العصابة مهزومة.تم تحريم هذه اللعبة دولياً بعد أن تسببت إحدى المعارك الشرسة في تحطيم زجاج إحدى السيارات وشكوى أصحاب المحلات التجارية من أننا نثير الفوضى في الشارع ( كما أسلفت لكم كنا نعيش في منطقة تجارية ) وتدخل بعض العساكر من القسم المجاور لفض أحد الاشتباكات وأخذوا تعهداً من أولياء الأمور (بضبط ) أبنائهم وبالفعل تم ( ضبطنا ) بالأساليب التربوية السابقة ( ويبدو أنها كانت الحل الوحيد الناجع).الكاميرا الخفية : مع بداية ظهور برنامج الكاميرا الخفية في التلفزيون تفتقت أذهاننا على لعبة رمضانية جديدة وهي تطبيق مقالب الكاميرا الخفية على البسطاء من الناس وهكذا كما ترون لم نكن أشراراً فقط وإنما عنصريون أيضاً .كانت المقالب متنوعة ومتعددة ومما أذكر منها ربط خمسة ريالات بخيط رفيع لا يرى ورميها وسط الشارع بينما نختبئ نحن في ركن خفي ونسحب الخيط كلما حاول شخص التقاط النقود من الأرض وننفجر ضاحكين ونحن نرى ملاحقته للخمسة الريالات المسكونة بالجن ولكن هذا المقلب لم يستمر كثيراً لأنه كان مملاً.مقلب آخر ولكن لم نكن نطبقه في حيينا وإنما بالاشتراك مع بعض المخضرمين من أصدقائنا في المدينة القديمة وكنا ننفذ هذا المقلب في منطقتهم لأن الأجواء مناسبة وكان هذا المقلب يتلخص في وضع صندوق كرتوني كبير في أحد الأزقة المظلمة في المدينة القديمة ثم نضع داخل ذلك الكرتون أصغرنا سناً وحجماً ونختفي نحن بين البيوت لنراقب الطريق وما إن يأتي يمشي شخص في الزقاق حتى نطلق صافرة خفيفة للتنبيه فينتظر الشخص القابع في الصندوق قليلاً ثم يقفز فجأة من داخل الصندوق وهو يصرخ بصوت مرتفع ليتفض الشخص المستهدف مفزوعاً ثم يبتسم لنا ويتظاهر بالمرح عندما يرانا نضحك ويغادر المكان بساقين لا تكادان تحملانه ولكن وبما أن طبائع الناس مختلفة فقد ساقنا القدر لنفزع عجوزاً في آخر عمره حتى كدنا نتسبب له بنوبة قلبية فما كان منه إلا أن أشهر عصاه ونزل بها ضرباً على الشخص الذي قفز من داخل الصندوق والذي لم يسعفه الوقت للهرب بينما نحن لذنا بالفرار وتركناه يواجه مصيره.المقلب الثالث والذي أدى إلى تحريم اللعبة دولياً يتلخص في الآتي كنا نحضر كرة مفرغة من الهواء ونملأها بالتراب ونضعها في الطريق ونضع على بعد أمتار منها حجرين متباعدين يمثلان المرمى ويقف أحدنا في المرمى ثم ننتظر حتى يمر أحد الأشخاص ( وكنا نركز على أبناء الريف القادمين للتسوق من المدينة ) ونتحداه بأن يسجل هدفاً في المرمى و طبعاً المسكين لا ينال إلا الألم بينما الكرة لا تتحرك سوى سنتيمترات معدودة ، مرت اللعبة على خير وضحكنا كثيراً حتى أتى لنا أحدهم بفكرة جهنمية وهي أن نملاً الكرة بالحجارة بدلاً التراب بغرض إضفاء المزيد من المتعة على اللعبة وكان له ما كان وكان ضيفنا الأول بعد التعديل شاب في سن المراهقة قادماً من إحدى القرى القريبة من المدينة والذي ما إن تحديناه حتى قبل التحدي وخلع نعليه ثم وأخذ مسافة استعداد مناسبة ثم ##########تحركت الكرة لمسافة متر أو أكثر بقليل بينما ملأ الفتى الحي بصراخه ثم ارتمى على الأرض وهو يحضن ساقه ويصرخ بصوت مرتفع جعل الناس يتجمعون بلمح البصر حولنا وتم إسعاف الفتى إلى المستشفى لنعرف فيما بعد بأنه أصيب بكسر في مشط القدم وانخلع ظفر إصبع قدمه الأكبر بأكمله فعدنا نحن لمواجهة الأساليب التربوية (إياها) مرة أخرى.كانت تلك آخر الألعاب الصبيانية الرمضانية التي مارستها في مدينة إب لأني انتقلت في العام التالي مع أسرتي للسكن في العاصمة صنعاء وهناك تعرفت على أساليب جديدة للشر في رمضان تبدأ مع شروق الشمس وتهدأ مع غروبها لنتحول إلى ملائكة ولكن هذه قصة أخرى ..