الاثنين، ٣ جمادى الآخرة ١٤٢٨ هـ

الجنون فنون

لا أعرف له إسماً معيناً لكني اعرف هيئته وكنت أشاهده أحياناً في طريق عودتي من المدرسة إلى البيت (وكان طريقي يمر وسط السوق الرئيسي في المدينة ) وكنت أرى هذا المجنون دائماً مرتدياً ثوباً طويلاً ممزقاً يصعب تمميز لونه مع أني أعتقد أنه كان أبيضاً يوماً ما (أقصد القميص طبعاً) وكان صاحبنا يمشي شارد الذهن ثم فجأة يتوقف أمام إحدى برك المياة الآسنة التي تخلفها الأمطار في( المطبات) كبيرة الحجم ويتجرد من ثيابه ويبدأ بالإغتسال بذلك الماء عارياً تماماً في وسط سوقٍ مزدحم ويتحول المنظر إلى عرض جماهيري سرعان ما يتحلق حوله الناس (كالعادة).حصل المشهد السابق أمام ناظري مرات عديدة وفي إحدى المرات كان أحد المؤولين في المدينة يمر بسيارته من المكان وشاهد الناس يتحلقون حول المجنون وهو يغتسل بمياه تزيده قذارة لا غير ، وأعتقد أن هذا المنظر حرك شيئاً ما في صدر المسؤول فنزل من سيارته وعرض على المجنون نقوداً ليشتري بها شيئاً يستره ولكن المجنون حلف أغلظ الأيمان بأنه لن يأخذ المال مردداً (مستورة والحمدلله ) .. هذا المشهد رأيته بأم عيني ولن أنساه ماحييت (الجدير بالذكر أني لم أر هذا المجنون يتسول قط ) ..بعدها بمدة رايت ذلك المجنون يتجول في أكثر من شارع مرتدياً قميصاً وإزاراً صنعهما لنفسه من أجولة الدقيق(الشوالات ) وكان يقوم بجمع جالونات زيت الطبخ الفارغة وأيضاً أجولة القمح والدقيق الفارغة وعندما رأيته لم أعر الأمر اهتماماً حقيقياً ولكني أعجبت بالطريقة التي صنع بها ملابسه ثم نسيت الأمر تماماً ولكن في أحد أيام من هذه الحادثة وأثناء اجوالي في أحد الشوارع القريبة من السوق حانت مني إلتفاته لسطح السوق لأرى ذلك المجنون يقف هناك وحوله تترامى مستعمرة ضخمة من جالونات الزيت الفارغة وكانت مرتبة على شكل أكداس كل واحد منها يحتوى نوعاً معيناً من الجالونات أو الأجولة .. وفيما بعد فسر لي أحد أصدقائي( العارفين ببواطن المجانين) بأن ذلك المجنون يقوم بجمع هذه الأشياء من الشوارع ثم يبيعها للمصانع التي تعيد تصنيعها وإستخدامها من جديد (كان ذلك في فترة لم نسمع فيها عن إعادة التصنيع بعد ولم تصبح فيه هذه المهنة مصدر رزق للكثير من الأسر) .. وبصراحة إحترمت طريقة التفكير التي يفكر بها ذلك المجنون والتي لم يفكر بها كثير من العقلاء، ولكن وكما يقال ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فسرعان ما بدأت البلدية بمضايقته والسبب ليس تشويه المنظر العام للسوق ولكن لأنه لم يستأجر السطح منهم أو بمعنى آخر لم يدفع (الأتاوة ) فضايقوه مراراً وحاولوا إبعاده عن السوق وفي كل مرة كان صابحنا يقاتل بشراسة ويخرج منتصراً بسبب تعاطف الناس معه ووقوفهم إلى جانبه ..ثم هدأت مضايقات البلدية له ويبدوا أنهم استسلموا للأمر الواقع .عادت الحياة لسيرتها الأولى بعد أن صرف موظفوا البلدية النظر عن المجنون حتى تفاجأ الناس في أحد الأيام بالمجنون يصرخ ويعول ويلطم على خديه وهو ينبش بين الاكداس الموجودة على السطح ولكما انتهى من أحدها زاد صراخه والناس يضربون يداً بيداً مرديين (لا حول ولا قوة إلا بالله الرجال جنن ) متناسين أنه مجنون أصلاً ... واتصح فيما بعد أن هناك من كان يراقب المجنون وإستطاع معرفة المكان الذي يخبيء فيه المجنون نقوده التي يحصل عليها من بيع الأغراض التي يجمعها (وكان المجنون يخبئها بين الأكداس في سطح السوق ) واستغل اللص ذهاب المجنون ليجمع الأغراض من الشوارع وقام بفعلته .. والمبلغ المسروق يتجاوز ال 600 ألف ريال بقليل (ايام ما كان الريال ريال مثلما كان يردد جدي رحمه الله ) ...و منذ تلك الحادثة لم أر ذلك المجنون مجدداً ..الغريب في الأمر أنه بعد انتشار خبر هذه الحادثة إنخرط في التجارة التي كان يمارسها عدد آخر من المجانين* والكثير من العقلاء