الجمعة، ١٨ شعبان ١٤٢٨ هـ

على الواقف

على الواقف
إحساس غير مريح البتة عندما تشعر بأنك بحاجة لأن تحك ساقيك ولكنك لا تجرؤ على ذلك، تتقلص أصابع قدميك في حركة عصبية في محاولة من الدماغ لتشتيت انتباهك عن الشعور الذي ينتابك الآن لكن الغريب في الأمر أن هذه ليست المرة الأولى التي ينتابك فيها هذا الشعور فمنذ طفولتك وأنت معتاد على الوقوف لساعات على قدميك وأحياناً على قدمٍ واحدة عندما كان الأستاذ "عفيف" يعاقبك على كسلك في عمل الواجبات وعلى غبائك في الصف. لكن الوقوف حتى على قدمٍ واحدة في تلك الفترة لم يكن مؤلماً ومزعجاً مثل ما هو عليه الآن ، كنت لا تزال يافعاً وكانت وضعية الوقوف تلك نوعاً من الرياضة والتسلية في آنٍ معاً خصوصاً عندما يدير الأستاذ " عفيف" ظهره ناحية التلاميذ فتقوم بإنزال قدمك وصانعاً بوجهك أشكالاً مضحكة تجعل كل من الصف ينفجر ضاحكاً بينما يحمر وجه الأستاذ "عفيف" غضباً ويتجه إليك ليصفعك ويدير وجهك نحو الحائط مرة أخرى.
- أين أيام الأستاذ " عفيف "؟
تقولها لنفسك متنهداً ومتحسراً على تلك الأيام ، فلم ترَ بعد الأستاذ "عفيف" سوى البؤس والشقاء وقد بدأت رحلة شقائك عندما غادرت المدرسة بسبب ضيق ذات يد الأسرة الكريمة واضطررت للعمل في السوق واقفاً أمام "بسطة " للخضروات في تلك السن المبكرة من عمرك لكي تساعد والدك الذي يكد ويتعب لإطعام الأفواه الخمسة عشر التي تنتظره في بيت الصفيح الواقع في الضاحية الجنوبية للمدينة ومرت سنين الطفولة ثم المراهقة وأنت واقف على قدميك كل يوم في السوق لتحصل في نهاية اليوم على دراهم بالكاد تسد الرمق.لا زلت تتذكر ذلك اليوم الذي رأيت فيه صاحب البسطة المجاورة "محمود الصايع" (المختفي منذ أشهر) حليق الرأس نافخاً صدره مزهواَ باللباس العسكري الذي يرتديه وماشياً في خيلاء من أمام بائعات الخبز ثم يتجه نحوك ليجدد العهد القديم ويمازحك وتعرف منه أنه التحق بالجيش عن طريق أحد أقاربه الذي ترقى منذ فترة بسيطة إلى صف ضابط ولكنه صاحب علاقات واسعة في وحدته العسكرية.عرض عليك محمود مشروع العمر وبأنه بإمكانه أن يسهل لك طريقة للالتحاق بالجيش ولن يكلفك ذلك سوى مبلغ بسيط تدفعه لابن عمه وترتاح بعدها من عناء الوقوف اليومي في السوق والصراع على دراهم قليلة لا تكاد تسد رمقك ، لم يدم تفكيرك في الأمر طويلاً إذ أنك سرعان ما بعت البسطة التي كنت تعمل عليها واستدنت مبلغاً صغيراً من جارك "أبو سعيد" ولم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً حتى صرت مجنداً.
في المعسكر قالوا لك أن الفترة التدريبية هي الأشق وعليك احتمالها لتنعم بالراحة فيما بعد ، ولكنك كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار إذ أنه سرعان ما تبينت لك حسنات الوقوف في السوق مقارنة بالوقوف في طابور المعسكر ففي السوق كنت تنشغل بحركة البيع وإرضاء الزبائن والتحدث مع جيرانك في السوق عن وضعية الوقوف التي صارت ملازمة لك أما في المعسكر فيجب عليك أن تقف لساعات كالصنم دون حركة أو كلمة أو همسة ولو كان بيدهم أن يمنعوا رئتيك من التنفس وقلبك من الخفقان لفعلوها ، كانت تلك الفترة هي العذاب بعينه وكان شعورك بالحاجة إلى أن تحك ساقيك يثير جنونك حتى أنك تمنيت في يوم من الأيام أن تكون بلا ساقين.
مرت الفترة التدريبية بسلام (نوعاً ما) وكنت تتمنى في قرارة نفسك أن يعينوك في إحدى كتائب السلاح وحبذا لو كان سلاحاً له مقعد كالدبابات أو مضاد الطيران ليتاح لك الجلوس طوال اليوم ولكن المشكلة أنك كنت جيداً جداً في فترة التدريب الأمر الذي أثار إعجاب قائد الوحدة والذي أصر على تكريمك بتعيينك حاجبا لباب مكتبة وهو عمل مريح (من وجهة نظره ) وسيكفيك عناء الطوابير اليومية في الوحدة.
كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً وها أنت اليوم لا تزال واقفاً أمام مكتب القائد وتتمنى لو أنك ولدت بلا ساقين أقله لن تشعر بالحاجة لأن تحك ساقين لا تمتلكهما ، قد يكون الموت هو خلاصك الوحيد من هذا العذاب ولكنك رجل مؤمن ولن ترتكب عملاً أحمقاً يكبك على وجهك في جهنم، كما أنك لا تعلم أنك ستموت بعد عامين بسكتة قلبية سببها الإجهاد وكذلك لا تعلم أنه في نفس اليوم سيصدر قرارٌ حكومي بجعل القبور طولية بسبب ازدحام المقابر.
عبدالله أحمد الشعيبي*

ليست هناك تعليقات: