الاثنين، ٩ ذو القعدة ١٤٢٨ هـ

كلام حكومات

" على كل مواطن يقيم خارج الوطن لمدة تزيد عن الستة أشهر تقييد اسمه في سجل قيد المواطنين في السفارة أو القنصلية التي يقطن في مجال اختصاصها "
هذه العبارة تقع بالتحديد في الصفحة السادسة من جواز السفر في الجهة اليسرى لو أردنا مزيداً من الدقة ، ذلك الجواز الذي ما إن استخرجته حتى جلست أتأمله ليومين كاملين مبهوراً بأناقة التصميم ومأخوذاً بالعبارات الرنانة التي احتواها بين دفتيه مثل تلك الديباجة التي يرجو فيها وزير خارجية الحكومة الموقرة من جميع الجهات في جميع البلدان تذليل كل العقبات لحامل الجواز وإحاطته بكامل الرعاية عند الاقتضاء بالإضافة إلى العبارة المتعلقة بقيد الأسماء والمذكورة أعلاه ، الأمر الذي أوحى لي بما لا يدع مجالاً للشك بأن الحكومة الموقرة وعلى رأسها فخامة الرقيع يهتمون بأمر المواطنين خارج الوطن بغض النظر عن إذاقتهم للمقيمين داخل الوطن صنوف الذل والهوان ( وظننت وبعض الظن إثم أن ذلك ربما يكون تطبيقاً لمبدأ عدم نشر الغسيل القذر خارج حدود الوطن).
كانت هذه الحقيقة التي توصلت إليها مبعث فخر لي وشعرت بالتميز عن أقراني لأني كنت على مسافة قاب قوسين أو أدنى من السفر وبدأت أحلم ليل نهار بالدلال والنعيم المقيم والحفاوة التي سألقاها من سفارتنا في البلد الذي كنت على وشك السفر إليه ، بل وصلت في الصفاقة أني رأيت بعين الخيال سفيرنا الموقر ينتظرني أسفل الطائرة بسيارته الكاديلاك السوداء ( سمعت فيما بعد أنها مرسيدس ) وما إن رآني حتى تهللت أساريره وأخذني بالأحضان و........... "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " قلتها لنفسي ونفثت على يساري ثلاث مرات لأفيق من هذا الحلم الغير لائق بسعادة السفير .
المهم وحتى لا أتشعب في الحديث سارت إجراءات سفري على خير ما يرام واستطعت الهجرة أخيراً وبعون الله إلى بلد من بلدان بني الأشقر وهو الحلم الذي راودني منذ الطفولة على الرغم من تغير الدوافع " ففي طفولتي أردت السفر حتى أتعلم الأكل بالشوكة والسكين بينما كان سفري مؤخراً بسبب دوافع إنسانية بحتة " ، ومنذ أن وطئت قدمي أرض تلك البلاد حتى انشغلت بأمور كثيرة جدا ولم أجد متسعاً من الوقت لالتقاط أنفاسي وعليه نسيت كل ما يتعلق بالجواز والسفارة والمعاملة الخاصة حتى حصلت أخيراً على الإقامة بشكل رسمي في البلد الذي هاجرت إليه ، ولأني كنت سعيداً جداً بحصولي على الإقامة أخذت أقلب الجواز بين يدي متأملاً الإقامة لأشعر بالمزيد من النشوة وأثناء تأملي في الجواز وقعت عيني مرة مجدداً على العبارة القائلة :

" على كل مواطن يقيم خارج الوطن لمدة تزيد عن الستة أشهر تقييد اسمه في سجل قيد المواطنين في السفارة أو القنصلية التي يقطن في مجال اختصاصها "
ودون تردد ولأول مرة في حياتي قررت أن أتبع النظام و " أسمع كلام الحكومة " على الرغم من أني كنت عضواً فاعلاً في عجلة الفساد والفوضى في وطني ق . هـ ( قبل الهجرة) ،فبحثت عن رقم الهاتف التابع للسفارة عن طريق الانترنت وبعد عناء عثرت على الرقم فرفعت سماعة الهاتف في تلك اللحظة وطلبت الرقم وبعد أن رن الهاتف مرتين " فقط " تسلل إلى أذني عبر سماعة الهاتف صوت كأجمل ما خلق الله من أصوات على ظهر البسيطة قائلاً :
- أهلا وسهلا هنا سفارة .............
ابتلعت لعابي محاولاً التغلب على التلعثم المفاجئ الذي أصابني بسبب سماع ذلك الصوت العذب فقلت بصوت مهزوز :

- أنا المواطن ........ وأريد قيد اسمي في سجل المواطنين المقيمين في نطاق اختصاصكم.
ولأنكم تعرفون أن الأجهزة الإلكترونية خادعة أحيانا وهذا ما ظننته عندما سمعت الرد هذه المرة بصوت مغاير تماما وكأنما أصابت صاحبة الصوت التهابات مفاجئة في الحنجرة جعلت صوتها أجشاً كأقبح ما خلق الله من أصوات على ظهر البسيطة قائلة :

- عفوا لا يوجد لدينا شيء من هذا القبيل.

أنا مستغرباً :

- ولكن هذا مذكور في جواز السفر؟!!

شهقة غريبة ثم :

- اسمع يا أخي الـ ...... محترم نحن لدينا مسئوليات جسيمة هنا ولا وقت لدينا لمثل هذه التفاهات .

أنا مصعوقاً :

- تفاهات ؟! لكن أليس من مهام السفارة رعاية المواطنين المقيمين في دائرة اختصاصها ولكي يتسنى لها ذلك يجب أن يكون هناك سجل بأسماء المواطنين المقيمين في دائرة الاختصاص ؟!!

وما ان أنهيت كلامي حتى اخترقت أذني عبر سماعة الهاتف ضحكة كأرقع وأميع ما خلق الله من ضحكات على وجه البسيطة ثم ...تك ، انتهت المكالمة.

ما يثير حنقي حتى اللحظة هو أني لا أعرف كيف انتشر خبر هذه المكالمة في أوساط الجالية العربية وبسبب تلك المكالمة أصبحت مشهوراً في أوساط الجالية باسم الأحمق الذي " سمع كلام الحكومة "
عبدالله الشعيبي

ليست هناك تعليقات: